علاقة كيانية بالمسيح, أم علاقة شخصية بالمسيح؟!
لأجل كشف ما وراء الستار … يلزمنا تحليل تاريخي واضح, لكشف المستور والمسكوت عنه, حتى نعرف أن الكثير من تعبيراتنا وألفاظنا الروحية هي من أنتاج السياسة عديمة الأخلاق, فلنحذر إذاً من الوقوع في المحذور, حتى لا يصيبنا من قد أصاب كنائس أخرى كثيرة, فكان عدم كشف الستار سبباً رئيسياً في ضعفها وأنحصار كرازتها, حتى تم أبتلاعها تماماً من العالم!!
وهنا مثالاً واضح جداً … يؤكد كيف يبتلع العالم الكرازة ليشلها ويوقفها تماماً!! إنه مجرد تعديل بسيط يقوم به العالم ليبتلعنا .. إنه يبدل ألفاظ مكان ألفاظ!! نعم هذا بالضبط ما حدث في التاريخ, ولنا هنا مثال لذلك من:
كتاب “العلاقة الشخصية مع الله” للأب الفاضل: أنتوني م. كونيارس.
إنه كتاب يخلط المتضادات والمتنافرات معاً, بدون وعي روحي حقيقي بحقيقة التاريخ, ليهمل كيف نشأت الألفاظ والتعبيرات التي يستخدمها, ليبدل ألفاظ الروح فينا بأخرى بلا حكمة وبلا أفراز, ليتمكن العالم من تفتيت وحدة الجسد الواحد, ليتشتت مؤمنين الرب وسط هموم العالم الكثيرة المضلة!!
لذا فهدف هذا المقال البسيط .. هو تحليل سريع لتاريخ سفك دماء الأبرياء! بدعوات الأصلاح الوهمية, فلنعرف إذاً … كيف أن تعبيراتنا الروحية يمكن لها أن تعطل الكرازة على أفضل تقدير, هذا إن لم تشل جذورها تمام الشلل والعجز, لنصاب جميعاً بالبلادة الروحية. “يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا.” (متى 15: 8)!!
فلنذكرها بكل بساطة ووضوح، لكي يتحقق لنا فهم أفضل وأعمق لحياتنا في المسيح يسوع, لنتجنب تفتيت الجسد الواحد الذي لكنيستنا المستقيمة .. ولنتعرف كيف تحتل مصطلحات السياسية الغاشة تعبيرات الروح الساكن في كياننا, لتسرق أعز وأغلى ما لدينا!!
قل ولا تقل!!
قل “علاقة كيانية بالمسيح”, ولا تقل “علاقة شخصية بالمسيح”!!!
مع دقة البحث التاريخي التحليلي والتدقيق اللغوي, لن نجد لتعبير “علاقة شخصية بالمسيح” أي وجود في كتابات الآباء في العصور الأولى على الإطلاق! فالتعبير الأدق المستخدم عند آبائنا القديسين هو “علاقة كيانية بالمسيح”!
فعلى سبيل المثال وليس الحصر .. القديس أثناسيوس الرسولي (296م – 373م) في كتاباته اللاهوتية المتعددة، وكذلك القديس كيرلس الكبير الملقب بعمود الدين (375م – 444م) في شرحه المطول جداً لعلاقتنا بالروح القدس في المسيح يسوع ذكر فقط وبكل وضوح بإنها علاقة .. كيانية أتحادية!!
لذا لم يظهر تعبير “العلاقة الشخصية بالمسيح” إلا مع بدايات المحاولات الفاشلة للأصلاح الغربي, فمنذ بداية القرن الحادي عشر .. وصل الظلام والظلم الكاثوليكي إلى أشد وتيره له, وهذا جعل المنادين والراغبين في الأصلاح، يتغنوا بحرية الإنسان التي خلق عليها, فتغنوا سراً خوفاً من بطش فساد الطبقة الحاكمة بأسم الكنيسة!!
وهكذا رويداً رويداً .. بدأ الحديث عن الحرية يأخذ قوته وأنتشاره وأهميته كحل وحيد للخلاص من الفساد الكنسي السلطوي الظالم, وهذه الحرية المرجوة كانت واجبة مشروعة بنصوص الإنجيل نفسه. وهكذا ترسخ في نفوس المؤمنين الكنسين بأن خلاصهم من فساد سلطة الكنيسة, لن يأتي إلا بجهاد الثورة ضد الفساد حتى تحقيق الحرية الشخصية الكاملة التى خلقوا عليها, فالله هو واهب هذه الحرية, لذا لن يستطيع أي إنسان مهما كان مركزه وقوة سلطته, إن يسلبها من المخلوقين على صورة الخالق في الحرية. لذا فقد صار الغناء بالحرية طوال سنوات طوال, مطلب شعبي لا مفر من تحقيقه!!
وحينما جاء الأصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر وجد الأمر ملتهباً .. بل مشتعلاً على أشده, فأشتعلت ثورة الفلاحين في المانيا بسبب الضرائب المتضخمة الغير معقولة, المفروضة علي فلاحين فقراء معدُمين بلا رحمة وبلا حساب لتواضع دخلهم المادي, فعلى الفور ركب الإصلاح اللوثري على ثورة الفلاحين ليسرقها بلا خجل!!! ليقود ثورة الفلاحين ضد فساد السلطان الزمنى الذي كان للكنيسة الضلع الأعظم به.
إلا إن “لوثر” أدرك بعدم فائدة ثورة الفلاحين في تغيير شىء, لأن سلطة الكنيسة قوية جداً, وأن علاقته بالأمراء والملوك سوف تتضرر أيضاً, فأدرك على الفور بأن علاقته بالساسة أثمن وأهم لمستقبل الإصلاح من تلك الثورة الهوجاء التي بلا فائدة, فجاهد لأخماد ثورة الفلاحين، وحينما فشل في ذلك, حرض الأمراء الأصدقاء على قتلهم وأخماد ثورتهم بكل قوة في غير هوادة وبلا رحمة على الإطلاق؟!!
ليبدأ الأصلاح بعد ذلك بحملته الموسعة جداً للتشهير بالكنيسة وأسرارها, بدعم مادي وبسلطة جبروت الحكام الموالين له, فساندوه بكل قوة لأن مرديه من الأمراء والملوك كانوا كارهين للسلطة البابوية … فالكيل قد طفح!
وهكذا بسلطة الساسة أستمر الإصلاح المزعوم يفتت في كلمة الإنجيل لحساب هوى الحكام، ولهذا رفض “لوثر” كل ما تسلمته الكنيسة من المسيح والرسل، لينشأ ديناً جديداً لا علاقة له بواهب الخلاص، ليكون ما يفهمه الشخص المؤمن هو كل شىء مطلوب للخلاص في علاقة شخصية سرية لا يعلم أحد عنها شىء، علاقة في مخدع موصد بالعلاقة الشخصية لتحمل الكثير …. والكثير جداً من فساد البشر!!!
ومن أجل رغبة الشعب في الحرية الشخصية المطلقة لمقاومة الفساد الواقع على رقابهم, ومن جهة أخرى … لتحقيق أستمرار أشتعال ثورة الأصلاح البروتستانتية حتى تحقيق أهداف الأصلاح اللوثري المراد تحقيقه .. وهو أحكام سلطة مارتن لوثر على المجتمع كله، بما فيه نزع سلطة الكنيسة, لذا كان لزاماً على لوثر وبقية المصلحين من بعده, المحافظة بكل جهد على مطلب الشعب في تحقيق “الحرية الشخصية” موجوداً دائماً ومحققاً على أرض الواقع, لضمان أستمرار أشتعال الثورة ضد أي سلطان كنسي في كل زمان ومكان!!! لأنه بكل بساطة … هذه هي بشارة الأصلاح البروتستانتي للعالم أجمع, مهما أختلف الزمان والمكان!
وهكذا تم أستخدام وأبتكار مصطلح “العلاقة الشخصية بالمسيح” الواهب للحرية الحقيقية, وكان هذا ضرورياً جداً للحفاظ على المساندة الشعبية لحركة الأصلاح البروتستانتية, وهكذا أستمر الأصلاح اللوثري مع ما تبعه من أصلاحات متتابعة كتوابع للأصلاح اللوثري الأول، وهم جميعاً يتغنوا بضرورة الحرية الكاملة مع الله، والتي لن تتحقق إلا بعلاقة شخصية خاصة جداً بالمسيح يسوع، لتتحرر النفس من كل ضوابط الحياة المقدسة في مسيرة خلاصها!! ” فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا.” يو 36:8
حقاً يا له من خداع مضل!! فإن كان هناك قاضي ظالم يدير محكمة جائرة, فهل هذا يعني ضرورة تكسير وهدم القانون المنظم للحياة؟! …… عجبي!!
وبهذا الأصلاح السياسي البروتستانتي هُدِمت أسرار الكنيسة وتلاشت قوتها في حياة المؤمنين, بدعوى باطلة بأن من حق كل مؤمن في “علاقة شخصية بالمسيح” علاقة خاصة سرية مخدعية, لا يحتاج فيها لأرشاد من أحد, ولا غفران من الكنيسة، ولا وساطة أسرار الخلاص، فها هو الروح القدس يتحدث ويتكلم بكل وضوح لكل فرد في مخدعه الخاص السري, إنها علاقة شخصية فردية بالمسيح لا يمكن فصمها بالمعصية ولا كسرها بالخطية، لأنها هي هبة حرية الخالق لكل فرد مؤمن بأسمه القدوس!!
أما إن أردت الحق الآبائي كما ذكره القديس كيرلس الكبير ومن قبله كلمة الله الحية، بأن صلاة المخدع والخلوة الروحية والتوحد قائم على أساس العلاقة الكيانية، وليس للعلاقة الشخصية أي دخل بها على الإطلاق! لأن الصلاة -سواء صلاة المخدع أو صلاة الشركة- هي نتاج العلاقة الكيانية بالمسيح، والتي بدأت بسكنى الروح القدس في الكيان الداخلى بالمعمودية, لأن المعمد الذي جحد الشيطان وقبل الروح القدس في أعضائه الكيانية الداخلية الخاصة, لا صلاة له قبل أن يسارع ويتقدم على الفور ليتناول من جسد الرب ودمه, ليتحد مع بقية أعضاء جسد المسيح، الذين هم أخوته في مسيرة حياة النعمة والطهارة فيه, لأنه بدون القداسة لن يرى أحد الله!!
فأين هي إذاً فردية العلاقة الشخصية المخدعية التى يصرخون بها بأدعاء باطل كاذب, فلا نعمة للمؤمن إلا في وسط الجماعة التي هي جسد المسيح الحقيقي، ففي الأرثوذكسية لا نعمة فردية على الإطلاق!!
إلا أن المصلحين ظلوا يرددون أعلانات أعلامية عن “العلاقة الشخصية بالمسيح” كذباً ليلاً ونهاراً, حتى تم وبكل نجاح تحطيم وحدة الجسد الواحد, لتتشتت الكنيسة الغربية الواحدة إلى عدة آلاف من الطوائف المتحاربة بلا هوادة, التى تحاربت بلا عقل أيضاً, حيث أهدرت دماء البشر الأبرياء بلا رحمة وبلا عقل وبلا أي حساب روحي لخلاص الناس, هذا حدث بالفعل في الغرب البروتستانتي للأسف. عبر تاريخ طويل مرير جداً من سفك الدماء!!
(يتبع)
ه—————ه
+ هذا مقال تحليلي تاريخي ليكون نواة للرد على كتاب “العلاقة الشخصية مع الله” للأب الفاضل: أنتوني م. كونيارس. والذي للأسف قد نشرته أسقفية بني مزار، من مطبعة مدارس الأحد بروض الفرج، لمعرب مجهول!! قد أشير له بحرفين (ي.م) فقط لا غير!!
Share this content:
إرسال التعليق