القديسة( أنثوسا) Anthusa أم القديس يوحنا ذهبى الفم
وإذا كان يوحنا ذهبي الفم من أعظم قديسي الكنيسة الجامعة ومعلميها, ومن أشهر آبائها, فلأمه (أنثوسا) فضل تنشئته في مخافة الله وتقواه, وقد رسمت له بسيرتها الطاهرة الخطوط العريضة لمسار حياته.
إليك أيتها الأم (أنثوسا) تحيات تكريم وتقدير, لأنك وقد ترملت في شبابك الغض, لم تتطلعي إلي الزواج الثاني.
بل علوتِ يا (أنثوسا المباركة) علي التجربة, وارتفعت فوق الكارثة, ورفعت عينيك إلي السماء, فتحول الشر إلي خير, وقلت: هذه (درجة روحية) رفعني الرب إليها, فلماذا لا أقبلها بشكر؟!
إن (أنثوسا) أم ذهبي الفم, قد أختارت الطريق الأفضل, طريق الذين تبتلوا لله, وانقطعوا لعبادته وهي تواظب علي التضرعات والصلوات ليلا ونهارا.
علي أنها قد وجدت هدفا عزيزا آخر, أوقفت له وعليه حياتها مع عبادتها المتواصلة. هذا الهدف هو تربية ابنها يوحنا التربية المسيحية المثالية. فلم تهمله بل عاشت معه ومن أجله, ربته ولازمته وأعطته كل حبها ووقتها وجهدها, وأولته كل رعايتها.
أن (أنثوسا) أم وإمرأة فاضلة, ولم تكن لها شهرة ولدها القديس. ولكن فضلها علي الأجيال لا ينسي, لأنها هي التي ربته وأنشأته, وهي التي قدمته لله وللكنيسة وللعالم خير رجل مجمل بالفضائل.
كان يمكنها أن تتزوج برجل يؤنس وحدتها ككل امرأة, ولكنها رأت أن مثل هذا الزواج سيحتل في قلبها وفكرها مكانا يحتاجه ولدها, فآثرت أن تضحي براحتها وسعادتها حتي لا تنقص سعادة ولدها وراحته.
فلما كبر (يوحنا) إلي سن المدرسة أرسلته أمه إلي إحدي المدارس في أنطاكية, وظل يرتقي في سلم الدراسة درجة درجة, وفي مرحلة الشباب انتظم دارسا في مدرسة للبيان أنشأها الخطيب الشهير (ليبانيوس) (314-حوالي 393) في أنطاكية, وتتلمذ عليه (يوحنا) كما تتملذ عليه القديس باسيليوس الكبير, ونال يوحنا أعلي شهادة في زمانه في الفصاحة والبلاغة كما مضي إلي أثينا ودرس الحكمة والفلسفة في مدارسها ثم ذهب إلي الإسكندرية, وأمضي في مدرستها اللاهوتية الشهيرة خمس سنوات, عاد بعدها إلي بلده أنطاكية شاباً مرموقاً يشار إليه بالبنان.
وصار محط أنظار الناس جميعا. وكاد يوحنا يتيه عن نفسه في جو الإعجاب الذي أحاط به وهو شاب صغير, لولا أن تلقفته يد صديق مخلص هو حبيب عمره (باسيليوس) الذي رافقه وزامله, وزين له حياة القداسة, وأقنعه ببطلان الحياة الدنيا, وأبرز له تفاهة الأرضيات بإزاء السمائيات, وزوال الزمنيات بإزاء الأبديات.
فأصغي إلي نصائح صديقه, وتنبهت فيه تعاليم أمه (أنثوسا) التي أرضعته إياها مع لبن الرضاعة, فتشددت روحه, واعتزم علي أن يتبتل منقطعا لخدمة الله في أحد الأديار, فعلمت أمه بذلك, ومع ابتهاجها بتقواه ومسيرته في طريق الكمال المسيحي, إلا أنه آلمها أن يتركها وحيدة, وهي التي بذلت في سبيله حياتها, فأخذت تبكي متضرعة إليه أن يرجئ أمر رهبنته حتي توفي أيامها وتنتقل إلي العالم الآخر, فبكي لبكائها, واقتنه بكلامها, وعدل مؤقتا عن مفارقتها, وبقي معها في البيت عابداً, وكان لا يخرج إلا لعمله ثم عود إلي عكوفه وصلواته.
وفي هذه الأثناء رسمه البطريرك ملاتيوس (360-381) شماسا برتبة (قارئ) للفصول الكنسية (أناغنوستيس) وظل يخدم مع البطريرك مدة ثلاث سنوات. وحدث أن توفي اثنان من أساقفة الكرسي الأنطاكي, فكان طبيعياً أن تتجه الأنظار إلي (يوحنا) وإلي صديقه (باسيليوس) الذي كان قد انتظم في سلك الرهبنة.
ولما كان يوحنا يعرف ما اتصف به باسيليوس من فضائل, فقد استدعاه إليه, فلبي دعوته وترك صومعته ونزل إليه, فأخذ (يوحنا) يلح علي باسيليوس بقبول الرسامة, فاعتذر باسيليوس بحرارة وشدة, ولم يثنه عن رأيه إلا وعد من صديقه يوحنا بأن يقبل هو أيضا السيامة الأسقفية بعد أن يقبلها باسيليوس, وهكذا نجح يوحنا في رسامة باسيليوس أسقفا علي مدينة (رافانه) بالقرب من أنطاكية.
أما يوحنا نفسه فلما جاء دوره للسيامة هرب منها, واعتزل في أحد الأديرة البعيدة, فأرسل إليه صديقه باسيليوس يؤنبه علي تخليه عن وعده له, وخيانته لعهده معه, فكتب إليه (يوحنا), لا خطابا بل كتابا, في عظمة سر الكهنوت وجلاله, من أعظم ما خلفه لنا أباء الكنيسة من تراث أدبي روحاني لاهوتي, وأصر يوحنا علي عدم أهليته شخصيا لقبول تلك الكرامة, ولكنه عاد بعد حين إلي عمله مع البطريرك.
Share this content:
إرسال التعليق