(4) جلجامش
بحث واقعي
لحقيقة واقعنا الكرازي المعاش والمبادئ المثالية
المعطى الرابع:
“جلجامش” والحياة الأبدية!!
– هل هناك من إنسجام بين الحياة الأبدية وبين المبادئ المثالية الراقية؟
وقد أخترنا لهذه المهمة الشاقة قصة فريدة في وقائعها, جميلة في معانيها, راقية في مقاصدها, إنها “ملحمة جلجامش“ الخالدة, فهى أقدم ملحمة فى تاريخ البشرية, وجدت مسجلة على لوحات مسمارية في أربع من لغات الشرق القديم, هي السومرية, الأكاديمية, الجورية, والحثية, ويعود عمر النص السومري إلى أكثر من 3500 سنة قبل الميلاد.
وتحكي الملحمة قصة الملك “جلجامش” أقوى رجل عرفه التاريخ, الذي ظل يبحث عن الخلود, بلا فائدة في العثور على طريق الحياة الأبدية, حتى أدرك في نهاية الأمر بأن خلوده يبدأ بتغيير واقعه للأفضل, حتى بلوغ الكمال, وهكذا تنتهي الملحمة العتيقة بقدم الفكر الإنساني, ليدرك “جلجامش” بإنه لا خلود بلا عمل! وقد أثرنا بأختصار أن نقدم أهم أحداث الملحمة الطويلة جداً, لما فيها من منفعة جمة, ومجال خصب للتأمل لنكتشف كيف تَطَورَ الإنسان القديم وأرتقى! لنتأكد بإنه لا تَطَورْ على الإطلاق بلا عمل صالح, بل نبهر من حكمة الخلود وأرتباطها الوثيق بالعمل الإنساني!
فالإنسان لم يخلق ليموت وتفنى أعماله لتدفن معه, بل ليحيا للأبد وترتقي أعماله بتكميل فداءه, فخلوده يبدأ بعمله الصالح الذي يمنحه القدرة على تغير واقع حياته إلى الأفضل, لينمو بحكمة البقاء الأبدي إلى الحياة الأخرى, أما محاولة الهرب من واقع العمل والجهاد إلى الأحلام والخيالات المثالية, إنما لا تنشئ شيئاً صالحاً على الإطلاق, سوى مثالية وهم أبدية الكسل والتراخي! فإن تجرأت أن تفصل بين الأعمال الزمنية وإيمان الأبدية, فأعلم بأنه الوهم المثالي وحلم الفلاسفة لا غير, لتدخل بهذا إلى الفناء والعدم والسراب من أوسع الأبواب, لأنه حقاً الباب ضيق للذين يجدونه!
نجد في هذه الملحمة صدى الأختبار العملي صارخاً بحكمة الوجود والبقاء, هذه الادبيات العتيقة تبرهن عن صدقها وحكمتها ببقائها, وعبورها إلينا عبر الآف السنين, بل إنها قد نجحت بأمتياز لترتقي بالإنسان منذ فجر التاريخ.
أما المسيحية فقد تراجعت عن “حكمة البقاء بالعمل“, بإصلاح القرن السادس عشر الذي كرس إعلان الفصل بين الأعمال وإيمان الأبدية, ونجد النتيجة واضحة جداً بأنحصار المسيحية الأصلاحية رويداً رويداً في أماكن وبلدان نشأتها وإنطلاقها الأول, وأنتشارها الطفيلي على الثقافات الأخري التي لم تدرك مصيبة نشأتها وبشارتها!! فتكاثرت في بلاد خلق الله الواسعة, وتضائلت في بلدان مهد ميلادها! ففكر الإصلاح يلزمه عائل ليضمن بقاءه وأستمراره! فهو بالحق غير قادر على الحياة العملية في ذاته, لانه بلا تدبير زمني للعمل الروحي!!! ومرة أخرى .. لانه بلا تدبير زمني للعمل الروحي!!!
لذا فهو غير قادر أيضاً على الأحتفاظ بأبناءه, فهو يكسبهم لوقت قصير محدود, فيضمهم إليه بوسائل الابهار, ومردود الانبهار, وأضطرابات الأنفعال, كأدوات نفسية تلبس ثياب الروح والحق, فحقاً كما قالت أمثالنا الشعبية “بأن كل شئ جديد له شنه ورنة!“ ولكن سرعان ما تنتهي موسيقى الترانيم كما تنتهي أغاني الحب والغرام, ليأتي العالم مسرعاً ليخطف البنين من بين قبضة لم تملك يوماً منهجاً للبقاء والأرتقاء, بل إنها قد أحتقرت منهج البقاء الأول “منهج البقاء بالعمل“ وهو الوحيد القادر على المحافظة على ما يملكه الإنسان!
فَقدْ فَقَدَ الإصلاح الألماني أهم عناصر ومسببات البقاء, فخسر مميزات تداخله مع الحياة الواقعية برفضه المبدأ الأساسي الذي تطورت به الإنسانية, فسقط من واقعية الحياة! ليدخل إلى عالم التمنى والرجاء بالموسيقى والغناء! وهكذا بكل حزن يختفى من الكنيسة الأبناء, ليسرقهم ضراوة العمل العالمي المادي, ليتبقى قلة قليلة من الأبناء الكسالى الحالمين بالشفاء من أمراض الجسد لبلوغ كمال أبدية مثالية الكسل والتراخي!!
وإن عدنا مرة أخري ل”جلجامش” نجده في بداية الملحمة نشيطاً عاملاً, وإن فكر الموت لم يثني عزمه عن النمو والأرتقاء, وبناءه لمدينته العظيمة, أما فكر الأبدية الكسولة فقد صرفته عن العمل الخلاق لحين ولوقت … حتى أدراك الحقيقة كاملة, بأن الخلود والعمل وجهان لعملة واحدة, فلا خلود لمن لم يعمل!! وهذه الحكمة العتيقة لم تكن من ابتكار فكر توهمي للإنسان القديم الحكيم, بل كانت من نتائج تجارب حياتيه عديدة, وأختبارات قاسية لنتائج الواقع لتخرج إلينا بهذا المفهوم الرائع, الذي أثبت بجداره نجاحه وعبقريته علي تطوير حياة الإنسان عبر زمن النشأة الأول كله.
إن ملحمة “جلجامش” مليئة بالأحداث التي تنبؤ بأصول الحياة الإنسانية الحقيقة, لذا فقد حاولنا تسجيل أهم أحداث ملحمة “جلجامش” بالرغم من طول أحداثها, لتظل منبعاً خصباً لمن يدرك حقيقة الخلود بأعمال الإنسان الجديد في المسيح يسوع, الذي لم يخلصنا بشئ سوى عمله الفدائي من أجلنا.
فإن صدق ملحمة “جلجامش” في تشريح حياة الإنسان, كان سبباً رئيسياً لبقائها الآف السنين, فظلت ببريقها الأول ولمعانها الملهم في عيون وعقول كل مستمعين حكمتها. ويمكن أستمرار التأمل في أحداث الملحمة لنخرج بالكثير من اسرار البقاء والتطور والغلبة والنصرة. إلا انني سأترك هذا لحكمتكم.
ومازالت البقية لــ “أبدية العمل والبقاء” ضرورة وواجب! فالتداعيات الكثيرة التي للملحمة الخالدة “جلجامش” مازالت مستمرة منذ البدء وحتى اللحظة. وهي تجبرنا على التكميل … لخلق رؤية كنسية مرتقبة واضحة المعالم والهدف, لحسم أنتصار معركة البقاء والأرتقاء! (يتبع)
——————————
مثالية الجديد وهوان ضعف القديم!
↓↓ أضغط على الصورة ↓↓
Share this content:
إرسال التعليق