ملحمة “جلجامش” الخالدة
ملحمة “جلجامش” الخالدة
ولهذه الملحمة الخالدة قصة فريدة في وقائعها, جميلة في معانيها, راقية في مقاصدها, فهى أقدم ملحمة فى تاريخ البشرية, وجدت مسجلة على لوحات مسمارية في أربع من لغات الشرق القديم, هي السومرية, الأكاديمية, الجورية, والحثية, ويعود عمر النص السومري إلى أكثر من 3500 سنة قبل الميلاد.
وتحكي لنا الملحمة قصة الملك “جلجامش” الجبار الذي قد بنى المدينة العظيمة “أوروك” التي قد تميزت بأسوارها العالية وجمال مبانيها, فعمل وأجتهاد الملك الجبار جعل من “أوروك” أقوى من أي مدينة أخرى في بلاد ما بين النهرين. أما الملك “جلجامش” ذاته فقد كان ذو طبيعة فريدة, ثلثه بشر وثلثيه آلهة, لذا فهو كان على علم بإنه لابد له أن يموت! لأنه ليس بأنساناً كاملاً ولا إلهاً كاملاً, إلا إنه كان أقوى إنسان خارق قد وجد في التاريخ!
وبحكم طبيعة ثلثه الإنساني ظلم شعبه, لذا فقد تَوَجَّهَ الشعب بشكوى إلى إله السماء “آنو” للرحمة من ظلم “جلجامش”, فقام “آنو” بخلق الرجل البري الجامح جبار البائس “أنكيدو” ليكون قادراً على مواجهة ظلم “جلجامش”, إلا إنه قد حدث العكس تماماً, فبدأ “أنكيدو” بالهجوم بوحشيته على رعاة الماشية وقتل مواشيهم, وحرمهم أيضاً من الطعام. فتقدم الناس بالشكوى مرة أخرى ولكن هذه المرة لـ”جلجامش” الملقب بالظالم ظلماً.
فقام الملك العظيم بأرسال “شامهات” كاهنة المعبد لأغواء “أنكيدو”, لأن الملك الحكيم “جلجامش” كان يدرك بأن التعامل بين الأثنين سيروض الإنسان البري الجامح “أنكيدو” وسيفقده وحشيته! وهذا ما قد حدث بالفعل, وعند عودة “أنكيدو” مع “شامهات” إلى المدينة العظيمة “أوروك”, وَجَدَا الملك يحضر لهما حفل زفاف رائع.
إلا أن “جلجامش” طالب بحقه كملك بأن يكون أول من يمارس الجنس مع العروس!! فغضب “أنكيدو” جداً, ودعاه إلى نزال وصراع لأختبار القوة, فإن أنتصر “أنكيدو” على “جلجامش” سقط طلبه الرزيل! ودخل إلى المعبد بعروسه. وهكذا تصارعا صراع الجبابرة طوال النهار, وكان لـ”جلجامش” الملك العظيم اليد الأقوى بعد أن فقد “أنكيدو” وحشيته, فأعترف “أنكيدو” بتفوق “جلجامش” عليه, ولكن الملك الحكيم بكل معنى الكلمة تراجع عن طلبه السخيف, ونفذ كل رغبات “أنكيدو” ليعود معه إلى القصر كصديقين حميمين!!
سنين عديدة مرت على “جلجامش” و”أنكيدو” وأصبحا بلا هدف للمستقبل, فأقترح الملك عملية تطهير لغابات الأرز من الوحش وقص أشجارها, فكانت الرحلة طويلة عبر الصحراء لمقابلة الوحش “همبابا” الذي كان نصفه شيطان ونصفه الآخر غول, وكانت الأشجار الضخمة تسقط تحت ضربات فأسهم, فأثار ذلك الوحش فتقدم للصراع وفي نهاية النزال سقط الوحش أيضاً ميتاً بضربة قاضية من “جلجامش”.
ومن شجر الغابة المتساقط صنعا “جلجامش” و”أنكيدو” بوابة عظيمة, وصنعا كذلك قوارب من بقية الأشجار, وأبحرا عبر نهر الفرات إلى مدينتهم, وعند عودتهم إلى “أوروك” غضبت الآلهة بسبب أعمال “جلجامش” الصالحة الكثيرة, ومقدرته في كسب صداقة خصمه اللدود بالتغلب على وحشيته, فأصابت “أنكيدو” بمرض عضال, فراودته أحلام مخيفة, فوجد نفسه في بيت من الغبار يقطن فيه الأموات, في ظلام دامس لا يوجد أي ضوء يخرق الظلام اللامتناهي, هناك حيث باب الجحيم مغطى بغبار سميك, وعلى كل جانب كانت تتكدس تيجان الملوك وذوى السلطان, محاطاً بخيالات مخيفة لروح “همبابا” تظهر لتلعنه, أما صديقه الوفي “جلجامش” فقد كان يجلس بجانبه مستمعاً إليه وهو يصف العالم الآخر. وبعد أثنا عشر يوماً … مات “أنكيدو” وصمت للأبد.
“جلجامش” شهد خسارة عظيمة بموت “أنكيدو”, فصرخ الملك الوفي أمام موت صديقه قائلاً: “ألا أموت أنا أيضاً. وقد تحول صديقي إلى تراب!“ وهنا قرر “جلجامش” أن يصبح خالداً, فسأل كهنة المعبد فَعَلِمَ بقصة إنسان قديم جداً قد كسب الخلود هو وزوجته!! فصمم على مقابلة الرجل الخالد لكسب سر الخلود له أيضاً, ليبتعد وينجو من مصير صديقه المرعب.
فخرج مرة اخرى برحلة خارج “أوروك”, وعند وصوله لجبل “ماشو” الذي يحمي شروق وغروب الشمس, واجه هناك عقربين ضخمين جداً ظلا يضحكان عليه ليقولا له ساخرين: بأن مسعاه بدون أمل لتحقيقه! ولكنهما سمحا له بالمرور, وبعد جبل “ماشو” عبر أرض الليل حيث دخل إلى نفق كبير مظلم, ليعبره إلى جنة الأشجار, ومن أعلى هضبة بها تطل على مياه بحيرة الموت, أستطاع “جلجامش” أن يرى القارب الذي سيقوده إلى وجهته الأخيرة. ولكن قد أعترض طريقه مخلوقين حجريين ضخمين ينامان على الشاطئ. وبعد معركة قصيرة تغلب عليهما في اللحظات الإولى من الصراع, أما جثيتهما الحجرية فقد أنتشرت فوق الرمال كأحجار تشهد بعمل “جلجامش” المنتصر.
وهنا ظهر رجل مسن يتكأ على عصا خشبية طويلة وجسمه مغطى بالسواد, الرجل عَرَفَ نفسه “أورشنابي” رجل القارب, وقال “لجلجامش” إن المخلوقين الحجريين هما الوحيدين الذين يستطيعا أن يلمسا مياه الموت, لوحدة الطبيعة والهدف بينهما, ولم تنتصر أنتَ عليهما إلا بقليل من العمل والجهد, أما لك أنت الحيّ فعليك أن تعمل لتعبر بحيرة الموت! فأقطع ثلاثمائة شجرة, وأصنع منهم ألف مجداف, لأن كل مجداف سينحل ويتلاشى بملامسته لمياة الموت!
وهكذا بدأ “جلجامش” العمل وبحلول الصباح التالى قد أتم عمله, فدفع “أورشنابي” القارب إلى المياه, وراحَ هو والملك “جلجامش” في رحلة طويلة في غيمة عظيمة من الضباب والظلام, حتى أصطدم القارب بالرمال, لينقشع الضباب ليكشف عن جزيرة مهجورة بها كوخ صغير وحيد, وعند الباب رأى الرجل القديم الخالد “اونتابشتيم” الرجل الذي يحمل سر بقاءه حياً إلى الأبد!
ولكي يُجِيب “اونتابشتيم” طلب “جلجامش” بأعطاءه سر الحياة الأبدية, تحداه بأن يبقى مستيقظاً لستة أيام وسبع ليالى, لكن فور إنتهائه من الحديث سقط “جلجامش” على الأرض ونام نوماً عميقاً. فطلب الرجل القديم من زوجته أن تصنع رغيفاً من الخبز لكل يوم ينامه “جلجامش”, الوقت مر وعندما أستيقظ أنكر بأنه قد نام, ولكن “أونتابشتيم” أراه أرغفة الخبز, وكل منها بحالة مختلفة عن الآخر من التعفن بحسب مرور الزمن, فأحبط “جلجامش” فقد فَقَدَ فرصة نيل الحياة الابدية إلى الأبد, وتوسل “لاونتابشتيم” بأن يعطيه فرصة أخرى. إلا إن رجاء زوجة الرجل الخالد جعله يخبره بسر النبتة المختبئة في أعماق المحيط القادرة على أن تعيد شبابه إليه مرة أخرى.
فسافر الملك عائداً إلى مياه المحيط, وربط صخرة بقدميه وغطس لأعماق المحيط, ليخرج بعد وقت من الجهد والبحث ومعه النبتة السحرية, إلا إنه بمجرد خروجه من المياة أنهار منهكاً على رمال الشاطئ فنام, وهنا رفضت إحدى الآلهه أن يصبح “جلجامش” خالداً مثلهاً, فأرسلت أفعى تسللت إليه, وفيما هو نائم أكلت نبتة الخلود من بين يديه, فأنسلخ جلدها وتجدد جسدها. وعندما أستيقظ “جلجامش” رأى الحية تتجدد, فعلم على الفور بأن أمله في الحياة الأبدية قد فقده بلا عودة!
أما طريق العودة إلى “أوروك” كان طويلاً وقاسياً, إلا إن “جلجامش” قد تعلم حكمه الخلود وكيف يصبح خالداً!! عندما ظهرت الأسوار العالية في الأفق التى لمدينته العظيمة, صنعة يديه, أعظم إنجازاته الخالدة. فأدرك بأنه خالد بعمل يديه الصادق!!
وإلى هنا ينتهي مختصر ملحمة “جلجامش” الخالدة.
———————————————
أما لماذا قد تذكرنا هذه الملحمة القديمة جداً في عصرنا الحديث؟! إن الدافع يكمن في كرازة إصلاح القرن السادس عشر, الذي قد فصل الكرازة الغربية عن أهم مقومات بقاءها وتطورها وتداخلها في حياة البشر! لذا يجب علينا دراسة التاريخ القديم الذي به قد تقدمت الإنسانية ونجحت وحققت أرتقاءً كرازياً شمل العالم كله. ولنقع يقيناً على ما قد قام الإصلاح بحذفه وتعطيله في حياة الناس!!
وإن تراجع الكرازة الغربية المسيحية عن مكانها الكرازي المتقدم, يدفعنا عنوةً لدراسة الأمر عن كثب. ولكي تتمكن أيها القارئ العزيز من معرفة بعض من الأسباب التى أدت بنا للكارثة الكرازية الغربية المعاصرة, ما عليك سوى تتبع الأمر مع “الواقع والمبادئ ـ الجزء الرابع“
كتطبيق كرازي واقعي لملحمة “جلجامش” الخالدة
↓↓ أضغط على الصورة ↓↓
Share this content:
إرسال التعليق