موقع القيامة في حياتنا – الأب متى المسكين
موقع القيامة في حياتنا
الأب متى المسكين
لقد قام المسيح من بين الأموات بجسده الذي وُلِدَ به وصُلِبَ ومات. لذلك لما دخل المسيح العلِّية بعد القيامة، اضطرب تلاميذه إذ حسبوه روحاً، كاعتقاد تلميذَيْ عمواس: «الذي كان إنساناً نبيّاً مقتدراً في الفعل والقول أمـام الله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤسـاء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هـو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن مع هذا كله، اليومَ له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك» (لو 19:24-21).
+ «ولما… كان التلاميذ مجتمعين (في العلِّية يوم الأحد) لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم: سلامٌ لكم. فجزعوا وخافوا وظنُّوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم: ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ انظروا يديَّ ورجليَّ إني أنا هو. جسُّوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما تَرَوْن لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مصدِّقين من الفرح ومتعجِّبون، قال لهم: أعندكم ههنا طعام؟» (يو 19:20؛ لو 36:24-41)
هنا كان مُمكناً للمسيح أن يفتح أعينهم ويَسْتَعْلِن ذاته فيعرفوه ويؤمنوا به مرَّةً واحدة. ولكن المسيح أراد أن يجعلهم شهودَ عيانٍ بالعين الجسدية حتى يوصِّلوا الرسالة بتأكيد الرؤيا العينية الطبيعية، فنتقبَّل نحن الخبر بالكلمة ونؤمن نحن بما رأوه هم وتحقَّقوا منه.
ولكن الرسل القديسين لم يبقَ إيمانهم بالمسيح والحق قائماً فقط على الرؤية بالعين ولَمْس اليـد، ولكنهم وُهِبوا عامِلَيْن آخَرَيْـن رفعـا إيمانهم إلى مستوى استعلان الحـقِّ الإلهي ثم الشركة فيه:
العامل الأول: وهذا درجة أعلى من الإيمان برؤية العين الجسدية وباللمس الجسدي، أن المسيح «فتح ذهنهم ليفهموا الكُتُب» (لو 45:24)، أي ليعرفوا الحقَّ الذي فيها. وطبعاً هذا كان متأسِّساً على إيمانهم الأول برؤية العين الجسدية.
العامل الثاني: وهذا رفعهم درجة أعلى من فَتْح الذهن، أنهم أخذوا الروح القدس مرة بنَفْخ الفم بالتسليم، والأخرى يـوم الخمسين بالحلول. فصـار إيمانهم على مستوى الحق الإلهي، والشركة فيه. وطبعاً فإن هذه العطية الفائقة متأسِّسة على إيمانهم الأول برؤية العين الجسدية.
هنا لما سلَّمَنا الرسل الإيمان بالمسيح، سلَّموه لنا على الثلاثة المستويات: مستوى النظر بالعين واللمس باليد، ثم مستوى فَتْح الذهن واستعلان الحق الإلهي في الكلمة الحية، ثم مستوى حلول الروح القدس الذي أعطاهم الشركـة في الحق الإلهي، أي الشركة الروحية كما وصفها القديس يوحنا في رسالته الأولى: «أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 4:1).
والمسيح أعطاهم هذه المستويات كلها، ليس فقط لكي يعيشوا بها، ولكن أيضاً ليمنحوها لنا كما أخذوها بنفس القوة والدرجات ونفس المستوى، دون أيِّ استحقاقٍ منَّا: «لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو 8:5).
ويكتب القديس يوحنا الرسول:
+ «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أُظْهِرَتْ، وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظْهِرَتْ لنا. الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً» (1يو 1:1-4).
واليوم، وهو يوم القيامة، أقول لكم إنَّ هذه الشركة التي يدعونا إليها القديس يوحنا لكي نحياها مع الرسل ومع الآب ومع ابنه يسوع المسيح لكي يكون فرحنا كـاملاً، تلك التي عاشها الرسل يـومَ استُعلنت لهم القيامـة، وكـانوا «غيرَ مصدِّقين مـن الفرح» (لـو 36:24-41)؛ هي نفسها القيامة، وهي نفسها التي يدعوها القديس بطرس أنها بالنسبة لنا تكون هي الولادة الثانية:
+ «مباركٌ الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة، وَلَدَنا ثانية لرجاء حيٍّ، بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظٌ في السموات لأجلكم» (1بط 3:1-4).
ولكن يُعطينا أيضاً القديس بطرس انتقالاً من مستوى الولادة الثانية العمومية بالقيامة من بين الأموات، مـن مستوى فردي إلى ولادة ثانية من الكلمة «كلمة الله الحية»، إذ اعتبرها بحدِّ ذاتها، وإذ هي حيَّة وفيها قوَّة الحياة الأبدية، قادرة أن تلد مَنْ يحيا بها؛ قـال: «مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى، بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد» (1بط 23:1).
والعجيب أن كلاًّ من القديس بطرس والقديس يوحنا يعتبران الكلمة الحية أنها «زرع الله»، أي بذرة الحياة الأبدية، التي إنْ سكنت القلب فهي قادرة أن تَهبَ الحياة الأبدية، وتُعطي القيامة بطبيعتها الإلهية التي لا تُخطىء والتي لا تستطيع أن تُخطىء: «كـلُّ مَـنْ هـو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبتُ فيه، ولا يستطيع أن يُخطىء لأنه مولود مـن الله» (1يو 9:3).
لأن المولود من الله يحيا القيامة في طبيعتها الغالبة للخطية والموت. لذلك يقول بولس الرسول للذين يُخطئون بعد أن يكونوا قد قبلوا حياة القيامة الجديدة:
+ «عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه ليُبْطَلَ جسد الخطية، كي لا نعود نُستَعْبَدُ أيضاً للخطية» (رو 6:6).
+ «إذاً لا تملكَنَّ الخطية في جسدكم المائت لكي تُطيعوها في شهواته» (رو 12:6).
وكأن الإنسان الذي يطيع الخطية، يحاول أن يُملِّك الخطية مرة أخرى في جسده الذي صُلِبَ مع المسيح ومات.
وإذا سألتني: لماذا لا أحس بالإنسان الجديد الذي فيَّ، ولا أشعر بأنَّ لي خليقة جديدة أو القيامة التي نحياها؟
أقول لك: إن القيامة والإنسان الجديد أو الخليقة الجديدة هي من طبيعة المسيح السماوية، فلما قام المسيح من بين الأموات لم يكن يُرَى لجميع الناس. فالمسيح وُلد ومات على الصليب بجسدٍ بشري فيه ملءُ اللاهوت جسديّاً ونحن مملوؤون فيه، وقام بنفس الجسد وقد صار جسداً سماوياً لا يُرَى ونحن متَّحدون به. فكان يختار مَنْ يُستَعْلَن لهم ليهبهم العين المفتوحة على الحق الإلهي فيعرفوه، فنحن اشتركنا معه في هذه الطبيعة السماوية المخفية فينا ولا يمكن أن تُستَعْلَن لنا أو لأيِّ كائن آخر.
هذه الحقيقة أوضحها بولس الرسول:
+ «لأنكم قد مُتُّمْ وحياتكم (الجديدة) مستترة مع المسيح (القائم من بين الأموات) في الله» (كو 3:3).
فالمسيح غير منظور الآن، ولكن حياته هي مخفية في الله. هكذا صرنا نحن فيه غير منظورين من جهة طبيعتنا الجديدة أو إنساننا الجديد الذي يحيا في قيامة المسيح. وهذا ما يؤكِّده لنا القديس يوحنا في رسالته الأولى: «أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله. ولم يُظْهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نَعْلَم أنه إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو» (1يو 2:3).
هذا أيضاً يؤكِّده بولس الرسول: «متى أُظهِرَ المسيحُ حياتُنا، فحينئذٍ تُظْهَرون أنتم أيضاً معه في المجد» (كو 4:3). فطبيعة الله لا تُستَعْلَن الآن بأيَّة صورة. فإن اشتركنا فيها ينطبق علينا القانون. فالخليقة الجديدة تفصلنا عن العالم كما يقول المسيح:
+ «أنا قـد أعطيتُهم كلامك والعالم أبغضهم لأنهم ليسوا مـن العالم، كما أني أنـا لستُ مـن العالم. لستُ أسأل أن تأخذهم من العالم بـل أن تحفظهم مـن الشرير» (يو 17: 15،14).
ولكن من أهم مميزات الإنسان الجديد أنه مخلوقٌ بحسب الله في البرِّ وقداسة الحق، وهو المنوط به تنفيذ وصية المحبة الصادقة الأمينة لله والآخرين، لأنه (أي الإنسان الجديد) مولودٌ من الله، وطبيعة الله «محبة»، ومحبة الله فعَّالة. هكذا كلُّ مَنْ سكنت فيه محبة الله لابد أن يُظْهِرها، فتزيد. فالمحبة الفعَّالة المِعطاءة هي حياة الإنسان الجديد وعمله المزكَّى. حتى أن القديس يوحنا يقول في رسالته الأولى:
+ «كل مَنْ يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله، ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة» (1يو 4: 8،7).
العجيب في هذه الآية أنها تكشف لنا عن مصدر سرِّي نولد به من الله وهو «المحبة». فالمحبة الصادقة الأمينة من كل القلب، تكشف في الحال صاحبها أنه مولود من الله وله طبيعة وخلقة جديدة.
فالمحبة شهادة لأولاد الله، وقد جعلها القديس يوحنا مصدراً رسمياً لمعرفة الله: «كل مَنْ يحب، فقد وُلد من الله ويعرف الله». المعرفة هنا هي معرفة حبيب لحبيب بالرؤيا المكشوفة. يقول القديس بولس: «أَمَا رأيتُ يسوع المسيح ربنا؟» (1كو 1:9)، «إن كنتم قـد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم، أنه بإعلان عرَّفني بالسر، كما سبقتُ فكتبتُ بالإيجاز، الذي بحسبه حينما تقرأونه، تقدرون أن تفهموا درايتي بسرِّ المسيح… الذي صرتُ أنا خادماً له حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي حسب فعل قوَّته» (أف 2:3-7).
والذي نلحظه هذه الأيام بكثرة أن الذين يأتون للمسيح بقوة وحرارة، لا يأتون عن طريق الوعظ والتعليم، ولكن تنفتح بصيرتهم إثر دعوة المسيح الشخصية لهم، ففي الحال يؤمنون. هذا السرُّ يكشفه القديس يوحنا في رسالته بقوله: «ونَعْلَم أن ابن الله قد جاء (إلى العالم) وأعطانا بصيرة لنعرف الحق» (1يو 20:5).
هنا انفتاح البصيرة ومعرفة الحق هما المرادف العملي للميلاد الجديد، إذ يدخل الإنسان في معرفة وحب وأمانة للمسيح بلا وسيط ولا تعليم، ولكن انفتاح البصيرة يُعطيه استعلاناً داخلياً للمسيح، وفي أيامٍ معدودة يكون قد عرف عن المسيح ومن المسيح ما لم يعرفه كثيرون.
هذا وإن كان يُفرِّحنا جداً، ولكن في نفس الوقت، ينبِّهنا أن بصيرتنا متعوِّقة، قد طغى عليها العالم فاختفت رؤية الحق قليلاً قليلاً. فالخليقة الجديدة التي نلناها بقيامة المسيح لم تَعُدْ تحيا فوق بحسب الوصية: «فإن كنتم قد قُمتُم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالسٌ عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض، لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله» (كو 1:3-3).
فماذا نقول أيها الإخوة؟
الكنز الذي في أيديكم الذي استؤمنتم عليه،
الذي وصلنا بدماء الشهداء،
ومن خلال ضيقاتِ وآلامِ ومحنِ أجيالٍ،
يكاد يؤخَذ من أيدينا ويُعطى لآخرين يكونون شهوداً أُمناء له.
لأننا قمنا مع المسيح ونفتخر بهذا،
ولكن لا نطلب ما فوق ولا نهتم بما فوق.
اهتماماتنا أرضية نفسانية ذاتية.
نقول إننا متنا مع المسيح ونفتخر بهذا،
ولكن نحيا للعالم وليس مع المسيح ولا للمسيح.
القيامة كنز المسيح السماوي، الذي اشتراه بدمه، استودعه بين أيدينا، وذَهَبَ، وقد تَرَكَ لنا فيه أُجرة السَّفَر.
(عيد القيامة المجيد 2001م)
Share this content:
إرسال التعليق