القصد الإلهي من إعطاء الوصايا العشر لشعب إسرائيل – الأب متى المسكين
القصد الإلهي من إعطاء الوصايا العشر لشعب إسرائيل*
والوصايا العشر المعتبرة أساساً لقيام مملكة إسرائيل هي في الواقع ميثاق أو عهد أخلاقي روحي، منه نستطيع أن نقرِّر أن الله شاء أن يقيم لنفسه من بني إسرائيل مملكة روحية صرفاً تختلف جوهرياً عن كافة الممالك الأخرى التي قامت في العالم على أساس مادي وزماني. والقصد الأساسي من قيام هذه المملكة الروحية هو التمهيد لاستعلان الله الواحد للبشرية كلها من خلال شعب إسرائيل المزمع أن ينثره الله على الأرض في وسط كل ممالكها.
لذلك نجد أن أول اهتمام الله بالنسبة لمملكة إسرائيل كان توحيد الأسباط بقوة العبادة والوصايا المشتركة. أي أن أول مفهوم لمملكة إسرائيل الروحية، الذي هو مزمع أن يكون نفسه هو مفهوم الكنيسة والملكوت السمائي، هو أنه شعب واحد متحد لإله واحد معبود!
ولكي يحفظ الله هذا الشعب باشر إعلان قوته بمعجزات بالغة وشديدة، وذلك في كل مراحل خروج بني إسرائيل من مصر، وفي طرد كافة الذين اعترضوهم من أمامهم، حتى تمَّ استقرارهم في بلاد فلسطين. وذلك كله كان بقصد أساسي هو ضمان قيام كيان قوي متحد لمملكة إسرائيل من الخارج إعداداً وتمهيداً لقيام كيان قوى ثابت لوحدة روحية داخلية لمملكة روحية على الأرض.
فالله اضطلع بقوته الفائقة للمحافظة على سلامة إسرائيل من الخارج، وذلك بأن أخذ على عاتقه قيادة الشعب في كافة حروبه، ضامناً لهم النصرة دائماً بأقل جهد وأقل عدد، مترجياً استغلال الشعب لهذه التأمينات الخارجية حتى يضطلع الشعب من الداخل بعبادة روحية صرف تربطه وتوحِّده فيه.
أي أن كل مظاهر القوة التي استخدمها الله في قيام وتأمين مملكة إسرائيل من الخارج كانت بقصد كفالة قيام وتأمين عبادة روحية من الداخل يمكن أن يُستعلن الله من خلالها لإسرائيل ثم للعالم أجمع. لذلك كان بين استخدام الله للقوة لنصرة مملكة إسرائيل – خصوصاً في مواقفها الحرجة – وبين الحياة الروحية الداخلية للشعب علاقة شديدة واضحة بصفة دائمة.
فبقدر ما كان الشعب يتمسَّك بالله وينفذ وصاياه ويمارس واجبات العبادة المفروضة عليه، كان يضطلع الله – من جهته – بكافة مستلزمات المحافظة على مملكة إسرائيل من الخارج بصورة مدهشة، معلناً رضاه عن شعبه بحلوله في وسطهم بمجد عظيم. الأمر الذي جعل شعب إسرائيل يفتخر فعلاً بالله وبقوته. والعكس أيضا صحيح، لأنه عندما كان يجنح الشعب إلى الأعتزاز بقوة ذراعهم أو يتجاهلون الله بأنصبابهم وراء شهواتهم الأرضية أو عبادة آلهة غريبة، كان يعاقبهم بشدة وبلا رحمة ويترك أعداءهم يهاجمونهم ويضايقونهم ويسبونهم:
+ ” أنتم الفرحون بالباطل القائلون أليس بقوتنا اتخذنا لأنفسنا قروناً، لأني هأنذا أقيم عليكم يا بيت إسرائيل، يقول الرب إله الجنود، أمةً فيضايقونكم من مدخل حماة إلى وادي العربة“ (عا 13:6)
+ “ قد كره إسرائيل الصلاح فيتبعه العدو“ (هو 3:8)
فكان عندما يستهوي الشعب أو الملوك مظاهر القوة الشخصية فيلجأون إلى استخدامها لتأمين أنفسهم كأي مملكة أخرى، كان الله يتخلى عنهم ليواجهوا انكسارات شديدة غير معقولة (1). ومن هنا يتضح أن الله جعل القوة التي سند بها إسرائيل حتى وبمظاهرها العنيفة ذات مدلول روحي عميق، وارتباط نجاح إسرائيل ونصرته على الدوام لا بالعدد كما ظنَّ داود مرَّة (2) وعوقب على ذلك بشدة، ولا بالكمية كما ظن يشوع قبل ذلك (3), ولكن برضاء الله الذي كان يتوقف على حالتهم الروحية.
إذن، بنظرة واحدة ندرك أن مملكة إسرائيل قامت بإرادة الله ومعونته الشخصية:
+ “اللهم بآذاننا قد سمعنا. آباؤنا أخبرونا بعملٍ عملتَه في أيامهم في أيام القدم. أنت بيدك أستأصلت الأمم وغرستهم. حطمت شعوباً ومددتهم. لأنه ليس بسيفهم امتلكوا الأرض، ولا ذراعهم خلَّصهم، لكن يمينك وذراعك ونور وجهك، لأنك رضيت عنهم“ (مز 1:44-3)
فكان الله ملكهم بالحق في الخارج والداخل، الله كان يتقدَّمهم في الحروب بقوة، فينصرهم، ثم يحل في وسطهم بمجده فيقدِّسهم، ولكن لم يدرك الشعب أن الله كان ينصرهم وكان يقدِّسهم لنفسه ليكونوا سبب بركة لكافة شعوب الأرض، وليس سبب نزاع وخصام ونقمة.
———————————–
(1) استثناء: كان الله ينقذ الشعب عندما يبلغ خطر الفناء.
(2) سفر صموئيل الثاني الأصحاح الرابع والعشرين.
(3) سفر يشوع الأصحاح السابع.
(*) من كتاب تاريخ إسرائيل – الأب متى المسكين ص 346-349
Share this content:
إرسال التعليق