ذبيحة الصليب في ضوء العهد القديم _ الأب متى المسكين
وبنعدد الآثار المترتبة على ذبيحة موت المسيح على الصليب يتضح تعدد الرؤيا لنوع ذبيحة المسيح على صور ذبائح العهد القديم. وبولس الرسول يرى من هذه الذبائح التي لمحها في ذبيحة المسيح ما يأتي:
أ_ ذبيحة الفصح:
“لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا.“ (1كو7:5)
والذي يعطي هذه الرؤيا الأستعلانية عن موت المسيح على الصليب أهميتها هي إنها قيلت في موسم الفصح الرسمي. لذلك نجد كلمة “أيضاً“ هنا مقارنة بين أمر حادث أمامه وبين الحال الذي يعيشه بولس الرسول في كنيسه في كورنثوس, معتبراً أن ذبح المسيح على الصليب صار للمسيحيين كذبح حمل الفصح يوم الفصح. فكما أن الفصح الأول الذي عُمِلَ في مصر هو ذبيحة الخروج العجيب الذي أعطى الشعب قوة الخلاص من عبودية فرعون مصر القاسي وسخرة العمل بلا أجر لليهود, هكذا صار لمسيحيي كورنثوس وكل العالم خلاص بذبيحة صليب المسيح من عبودية الخطية وتسخير الشيطان للإنسان لاقتراف الاعمال الميتة بلا طائل.
————————————–
ب_ “ذبيحة العهد” و “دم العهد” (خر8:24 , 1كو25:11):
وهي المقابل لما صنعه موسى بأمر الرب “لإقامة العهد“ المحسوب لنا الآن أنه “القديم“, في ذلك الوقت وبعد “الفصح في مصر“ أقام موسى ذبايح ومحرقات سلامة وأخذ منها الدم وسكبه على قاعدة المذبح, والباقي رشَّ به على الشعب قائلاً:
“هُوَذَا (دَمُ الْعَهْدِ) الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَكُمْ عَلَى جَمِيعِ هذِهِ الأَقْوَالِ.“ (خر8:24)
وعلى ذات المنوال وبصورة أستعلانية فائقة القدر مسك الرب يسوع المسيح الكأس (كاس الدم) ليلة فصحه ليقدس التلاميذ بدمه للعهد الجديد رواية بولس:
“كَذلِكَ الْكَأْسَ أَيْضًا بَعْدَمَا تَعَشَّوْا، قَائِلاً: هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي. اصْنَعُوا هذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي.“ (1كو25:11)
وبحسب القديس بولس أيضاً في رسالته إلى العبرانيين, فدم العهد بيد موسى قدَّس إلى طهارة الجسد فقط, أما دم المسيح فإلى تقديس الروح وأعماق الضمير.
+ “لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ، يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ الْجَسَدِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ (الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ)، قَدَّمَ نَفْسَهُ للهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَال مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ.“ (عب13:9-14)
وواضح أن رؤية بولس الرسول لذبيحة الصليب هنا تحمل ملامح ذبائح المحرقات والسلامة معاً. وكما بفصح المسيح (الصليب) انتهى الفصح القديم, كذلك بدم العهد الجديد انتهى عهد ذبائح المحرقات والسلامة.
————————————–
ج_ ذبيحة الكفارة (2كو21:5 , رو25:3):
وهي ذبيحة الخطية (لا25:6) ذاتها! وتعتبر من وجهة نظر بولس الرسول أهم الذبائح قاطبة في مضمون عمل الصليب والغاية من التجسد. وهو يستمد اهتمامه البالغ بها من واقع أهمية هذه الذبيحة في ناموس موسى بأعتبارها أكثر الطقوس أهمية في الناموس.
وبولس الرسول يرى أن المسيح بحمله خطايا البشرية خشبة الصليب صار بالفعل ذبيحة كفارة خطية بالدرجة الأولى وبكل معنى, حتى تجرأ واعتبر المسيح بحال الصليب أنه صار خطية!
+ “لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ.“ (2كو21:5)
قوة التعبير هنا شديدة ويلزم أن نستوعب كيف يجمع بولس الرسول الخطايا كلها كأفعال مطلقة ويعجنها ليخرج منها واقع واحد ملموس, فخطايا البشرية صارت مشخَّصة كشخص واحد “خطية” أستقطبها المسيح في نفسه ولبسها ليظفر بها على الصليب, حتى ينظر الخاطئ إلى نفسه في إيمان المسيح فيرى نفسه بلا خطية بل وعوض الخطية يلبس بر المسيح.
وقد عبر بولس الرسول عن ذبيحة المسيح الكفارية على الصليب لاهل رومية بنفس المعنى قائلاً:
+ “الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ.“ (رو25:3)
ولكن الجديد في هذه الذبيحة الكفارية أن الذي قدمها هو “الله نفسه“. لذلك فأيُّ قوة تكفير عن الخطايا تكون, وأيُّ قوة غفران للخطايا تكون, وأيُّ ضمان يفوق كافة ضمانات العالم يكون, لأنه بالصليب قد صفح الله عن خطايا بل خطايا العالم كله, وبالمسيح تبررنا أمامه.
هذا هو يوم الصليب عند بولس الرسول, إنه بديل يوم “الكبوراه“: “يوم الكفَّارة“ (لا27:23) لكل الشعب اليهودي. هناك كان يتحتم أن يقام كل سنة. وهنا هي سنة واحدة للرب مقبولة, قدم ذبيحة خطية عن العالم ولكل السنين والدهور.
+”وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَارًا كَثِيرَةً تِلْكَ الذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، الَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ الْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ الْخَطِيَّةَ. وَأَمَّا هذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً (الصليب)، جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمِينِ اللهِ.“ (عب11:10-12)
+ “فَبِهذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً.“ (عب10:10)
————————————–
د_ ذبيحة “رَائِحَةِ سَرُورٍ لِلرَّبِّ“ (عد1:15-4 , أف2:5):
+ “وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.“ (أف2:5)
وهي الذبيحة المقلبلة في العهد القديم لذبيحة وقود للرب, وفاءً إما لنذر أو للعيد:
+ “مَتَى جِئْتُمْ إِلَى أَرْضِ مَسْكَنِكُمُ الَّتِي أَنَا أُعْطِيكُمْ، وَعَمِلْتُمْ وَقُودًا لِلرَّبِّ، مُحْرَقَةً أَوْ ذَبِيحَةً، وَفَاءً لِنَذْرٍ أَوْ نَافِلَةً أَوْ فِي أَعْيَادِكُمْ، لِعَمَلِ رَائِحَةِ سَرُورٍ لِلرَّبِّ مِنَ الْبَقَرِ أَوْ مِنَ الْغَنَمِ، يُقَرِّبُ الَّذِي قَرَّبَ قُرْبَانَهُ لِلرَّبِّ تَقْدِمَةً مِنْ دَقِيق، عُشْرًا مَلْتُوتًا بِرُبْعِ الْهِينِ مِنَ الزَّيْتِ، وَخَمْرًا لِلسَّكِيبِ رُبْعَ الْهِينِ. تَعْمَلُ عَلَى الْمُحْرَقَةِ أَوِ الذَّبِيحَةِ لِلْخَرُوفِ الْوَاحِدِ.“ (عد2:15-5)
وهنا أهتمت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بهذه الذبيحة في معناها وألفاظها وأدخلتها في صلوات القداس:
+[ هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا,
فأشتمَّه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة,
فتح باب الفردوس ورد آدم إلى رئاسته مرة أخرى] (الخولاجي المقدس).
(رفع البخور “رائحة سرور”: للسيد المصلوب).
وبهذه الذبائح: ذبيحة السلامة, وذبيحة المحرقة, وذبيحة الكفارة, وذبيحة السرؤر مع ذبيحة الفصح يكون بولس الرسول قد غطى كافة أنواع الذبائح مطبَّقة على ذبيحة الصليب التي قدمها المسيح بذبيحة نفسه!
————————————–
كتاب القديس بولس الرسول _ الأب متى المسكين ص 256 – 259
Share this content:
تعليق واحد