نُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ــ الأب متى المسكين
نُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه
الأب متى المسكين
تفسير لقصة الميلاد من إنجيل معلمنا لوقا البشير ــ الإصحَاحُ الثَّانِي (الجزء الثاني)
+ «يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل.» (إش 14:7)
+ «لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد.» (إش 9: 6و7)
إذ قدَّم لنا الإنجيل الوعد بميلاد يوحنا والمسيح، ثم أكمل الوعد بميلاد يوحنا المعمدان، أصبح من الواجب أن يبدأ بوصف ميلاد المسيح. وكما رأينا في البشارة بالمسيح ما يفوق ما جاء في البشارة بيوحنا المعمدان، هكذا يأتي ميلاد المسيح ولو بالتماثل مع ما جاء في ميلاد المعمدان ولكن بصورة فائقة للغاية. وإن تصدَّر زكريا بالتسبيح والمديح لميلاد المعمدان، فهنا تتصدَّر الملائكة في السماء لإعلان الميلاد والتهليل له وبث الفرح العظيم بالخلاص الأعظم بميلاد المسيح.
ويمتاز ميلاد المسيح بأمرين كبيرين:
أ – فقد أخذ ميلاد المسيح وضعاً عالمياً في صميم تاريخ العالم بمقتضى تسجيله في سجلات الاكتتاب العام للمسكونة كلها، الأمر الذي أحدر يوسف وخطيبته الحامل من الروح القدس من الناصرة إلى بيت لحم مدينة داود. ومن هنا أخذ ميلاد المسيح اعتباراً هاماً في مقدَّرات العالم »لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قدَّام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأُمم، ومجداً لشعبِكَ إسرائيل.« (لو 2: 30–32)
ب – ولكن في مقابل هذا الارتفاع والسمو في مركز المولود بالنسبة لمقدَّرات العالم، نجده في ميلاده يكشف عن انتباهة خطيرة في مضمون حياة هذا المولود ومستقبله، إذ يجعل ميلاده في مغارة لعدم وجود مأوًى تأوي إليه والدته القديسة، وكانت المغارة مأوًى للبهائم والدواب، استحسنت فيها العذراء مذوداً صغيراً يسع طفلها الذي وضعته فوق التبن. وهكذا كان يحمل رؤية مستقبلية كيف سيسند ظهره العاري على خشبة الصليب يوم يفارق هذا العالم، العالم الذي استقبله في مذود وشيّعه على الصليب! وهكذا في إظهاره لفقره الشديد في دخوله وخروجه من هذا العالم يكشف عن رسالته ومضمونها في الخلاص الذي صنعه للفقراء والمذلولين والمظلومين والمعدمين ومن أجل كل مَنْ عطف عليهم!!
أمَّا لماذا يفصل ق. لوقا قصة الميلاد البتولي عن إنجيل حياته وأعماله، فواضح لكل ذي بصيرة أن قصة الميلاد تحتفظ بسر المسيح في شخصه الخاص جداً، كما تحمل أوضاعاً سرية غاية السرية لأمه العذراء القديسة التي يُظن أنها ما باحته قط لإنسان ما غير ق. لوقا لمَّا ألحَّ عليها وعلمت بالروح أن سرَّها سيصير جزءاً لا يتجزَّأ من سر الخلاص للعالم كله.
+ لوقا 1:2 «وَفِي تِلْكَ الأَيـَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ».
«أُوغسطس قيصر»:
كان أول إمبراطور روماني، واسمه الأصلي غايس أوكتافيوس، وكان ابن أخت يوليوس قيصر. و »أوغسطس« كلمة لاتينية تعني “الجليل والمهاب والرفيع القدر”، وتقابلها في اليونانية كلمة: “سباسطس SebastÒj” (أع 21:25). وقد أخذ لقب خاله يوليوس قيصر سنة 43 ق.م بالمجاملة بالانتخاب، وبمضي السنين أُسقطت كلمة يوليوس وبقيت قيصر. وبالتشاور بين أعضاء السيناتو (مجلس شيوخ الدولة) اخترعوا له اسم أوغسطس، وكانت تفيد وضعاً دينياً قريباً من التأليه، وكان يعني الحاكم الأعلى للامبراطورية الرومانية، وصار أول إمبراطور. وكلمة إمبراطور أصلاً لقب حربي، فكل جنرالات روما كان لهم هذا اللقب، ثم أُلغيت من الجنرالات جميعاً واحتكرها قيصر. وحينئذ زالت الجمهورية الرومانية وبرزت مكانها الامبراطورية الرومانية تحت إمرة أوغسطس قيصر سنة 30 ق.م. وفي أوج اعتلاء أوغسطس قيصر عرش روما بعد نحو خمسة وعشرين سنة من سلطنته، وقد خضعت له كل دول العالم، وُلد المسيح! وكأنه جاء ليستلم عرش العالم من يد أوغسطس قيصر. وفي ذلك الوقت كان من أعمال أوغسطس أنه أصدر مرسوماً لكي تُكتتب المسكونة كلها. وفي هذا الوقت كانت قد توقَّفت جميع الحروب وأُخضعت الدول جميعاً لسلطان روما وتمَّ ضبطها ليسود السلام على العالم أجمع.
وهناك على الطريق من الجليل إلى بيت لحم كان يسير معاً يوسف والعذراء القديسة ممتطية الدابة، يسندها يوسف، يتحدَّثان عن رؤى القدير والمصير، وإذا سألتهما إلى أين؟ يقولان إنه أمر قيصر أن نذهب ونُكتتب في مدينة أجدادنا الذين ورثنا منهم اسم داود، ودماؤه لا تزال تجري في عروقنا، زرقاء هي وملكية!! حقيران للغاية في منظرهما لدى العالم وقيصر، ولكن كانا يضعان أساس مملكة المسيَّا التي ستقتلع قيصر وروما وكل امبراطوريات العالم فيما هو آتٍ من الزمان لتسود مملكة السماء:
+ »كنت تنظر إلى أن قُطع حجرٌ بغير يدين … فصار جبلاً كبيراً وملأ كل الأرض.« (دا 2: 34و35)
وقبل أن ننتقل إلى الآية القادمة ننبه ذهن القارئ أن القديس لوقا، وهو طبيب ومؤرخ مُلهم بدأ هنا يُدخِل قصة ميلاد المسيح في عمق التاريخ، وأي تاريخ؟ تاريخ “المسكونة” العام والعلني، إذ بهذا الأمر الإمبراطوري تسجَّل يوسف ومعه مريم في سجلات العالم المدني باعتبارهما أبويْ يسوع رسمياً وبموافقة السماء. وهنا نعجب من التدبير الإلهي المتقَن، كيف سخَّر الله الحوادث وأخضع تاريخ العالم ليُسجَّل ميلاد المسيح في سجلات أعظم دولة!! إذ أصبح العالم يؤرّخ منذ ذلك اليوم لميلاد المسيح: “A.D.” “بعد الميلاد”. وهنا ندعو: ليت الذين يمجِّدون مسيح التاريخ أن يطأطئوا الرأس لهذا التدبير الإلهي المحكم والفريد. فإن أوغسطس قيصر ليس من ذاته وخياله أمر بالاكتتاب المسكوني العام، بل هو عمل الله الذي على أساسه وُلِدَ قيصر وقامت روما! فإن كان منذ الأزل: » “أحب الله العالم” حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية «(يو 16:3)؛ إذن، فليستعد العالم لدخول المخلِّص ويسجِّل له يوم دخوله في أفخر سجلاته، محدِّداً يوم ميلاده. وإن كان بسبب إهمال المسجِّلين والمؤرِّخين تاه منهم تحديد اليوم، غير أن القديس لوقا عمل كل ما في استطاعته أن يحدِّده إلى أقرب سنة بحسب الاكتتاب العام، ثم مرة أخرى سجَّل بدء خدمة المسيح: » ولما ابتدأ يسوع (يخدم) كان له نحو ثلاثين سنة…« (لو 23:3) (يتبع)
—————————————————-
للأستمرار في قصة الميلاد كما سجلها لوقا البشير
الجزء الثالث
↓↓ أضغط على الصورة ↓↓
https://sheheet.com/not-world/
Share this content:
إرسال التعليق