إرسالية حلّ الجحش – القديس أثناسيوس الرسولي
إرسالية حلّ الجحش
القديس أثناسيوس الرسولي
قال لهما: اذهبا إلى القرية التي أمامكما، فللوقت تجدان أتاناً مربوطة وجحشاً معها، فحلاهما وأئتياني بهما”، فمضى الرسل تلاميذه القديسون وحلوهما حسب ما أمر الرب.
يا أحبائي، حلّ الجحش موهبة!
إنها موهبة تُعطى للعظماء، لا عظمة الجسد بل عظمة الإيمان والمحبة والعقل والفضيلة، مثلما شُهد به عن موسى أنه صار عظيماً في شعبه .. فإنه مَنْ كان عظيماً يقدر أن يحلَّ الجحش! .. ليتني أكون مثلهما أستطيع أن أفك قيود الحاضرين لأن كل واحد منَّا مُقيَّد بقيود الخطية، كما شهد الكتاب قائلاً: إن كل أحد مربوط بجدائل (بأربطة) خطاياه.
لنبتهل إذن لكي يُرسل الرب يسوع تلاميذه إلينا، فيحلونا من القيود المُكبِّلين بها جميعاً، إذ بعضنا مُقيَّد بحب الفضة، وآخر بقيود الزنا، وآخر بالسك، وآخر بالظلم.
الحاجة ماسة أن يرسل إلينا تلاميذه فيحلونا من قيود الشرير، لأنه هكذا قال لتلاميذه: انطلقوا إلى القرية المقابلة فستجدون جحشاً مربوطاً حلوه وأئتوا به إليَّ.
حلوه من الأرضيات وأئتوا به إلى المدينة، المدينة السمائية. كما يكتب الرسول المغبوط بولس قائلاً: ليست لنا ها هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة، التي صانعها وبارئها الله. وقال أيضاً: أنكم لم تدخلوا إلى ناراً ملموسة مضطرمة بل قد دخلتم إلى مدينة الإله الحي أورشليم السمائية.
فأذهبوا أيها الرسل وحلّوا الجحش، لأن حضور مخلصنا (بتجسده) ومحبته للبشر، إنما هو إستدعاؤنا ثانية من القرية المجاورة إلى أورشليم المدينة السمائية، لأنه بسبب المعصية الصائرة من آدم طُردَّ من الفردوس، ونقلنا إلى القرية المحاذية، لأن الله أخرج آدم وأسكنه مقابل جنة النعيم، القرية المقابلة.
ها هم تلاميذ يسوع يَحلّون الجحش.
أرسل الرب التلاميذ إلى القرية ليحلّوا هذا الجحش، لأن من أجله أقبل المخلص، وترك الــ 99 خروفاً غير الضالة، كي يمضي ويفتش عن الضال، وإذا وجده سُرَّ به.
من أجل الضال، أرسل التلاميذ إلى القرية المحاذية، لأني أعرف أن قوات غير منظورة كانت تخدم يسوع، ولعل تلك القوات أرسلها الرب مع أصحاب بطرس إلى القرية المحاذية ليحلّوا الجحش، فقد قيل عن الرب أن ملائكة جاءت وكانت تخدمه، وعن الناس يهتف داود قائلاً: أعطاهم خبزاً سمائياً، لأنه لا يستطيع من يهوى أمور الجسد أن يصل إلى هذه المدينة الكبرى، لأن الجسداني مقيم بعد في القرية، لأن شهوة الجسد عداوة لله … لأنه إذا سلك أحد الناس في مدينة الفضيلة والعفاف وإستنار بالحكمة وعكف على النسك حينئذ يصير نظير القديسين، لأن القديسين ليست لهم ها هنا – كما سبقت وقلت – مدينة راحة، بل هم طالبون العتيدة التي صانعها وبانيها الله.
فلما مضى التلاميذ حلّوا الجحش، لأن (هذه الموهبة) لهم خاصة أن يحلوا هذا الجحش، لأن كثيرين يظنون أنهم تلاميذ يسوع المسيح، ولكنهم ليسوا عاملين بل غاشين مثل يهوذا.
قد كان للجحش أصحاب كثيرون لأن أصحاب الجحش قالوا للتلاميذ: لماذا تحلون الجحش؟ ولعلهم قالوا لهم: “أما تبصرون يا قوم كيف هو مربوط وهو مسلم إلينا فلما تأخذوه منَّا؟ أنه يساعدنا في عملنا .. لما تحلوا أملنا؟ أنكم تريدون أن تعدمونا هذا. وهذا إن أنحل من القيود فنحن لا محالة نُقيَّد عوضاً عنه، وإن عُتقَّ هذا فنحن نُشجَّب بدلاً منه – لأن الشياطين كانوا خائفين لما أبصروا الجحش قد أنحل، واضطربت القوى المضادة لما أتى ربنا ومخلصنا يسوع المسيح وعلموا بقدومه. تفرقوا وفزعوا لما سمعوا الرب يقول لتلاميذه: “قد أعطيتكم سلطاناً أن تدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو”. رهبوا لما سمعوه يقول: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”، وخشوا لئلا يكون هذا هو الذي ينير الظلمة، لأنهم سمعوا النبي قائلاً: “الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً”.
كان الكل يحيط بالجحش، كل أصحابه جالسون يحرسونه. أترى لو كان هذا شيئاً محسوساً كان كل أصحابه بجلسون يرصدونه؟ يكون مِلكاً لأصحاب كثيرين وكل مالكيه يجلسون جواره، ولا يتجرأ أن يمشي أحدهم في سوق ولا يكون لهم عمل آخر، كلهم يجلسون بجانب حمار. أيربط حمار محسوس على قارعة الطريق ولا يكون له مزود ولا يمضي إلى حقل! هل يربط جحش على قارعة الطريق وكل أصحابه يجلسون يحرسونه؟ أني أقول هذه الأقوال، ولست مبطلاً الرواية (التاريخية)، لأننا لسنا نبطل بالروح ما هو مكتوب، بل نحفظ القوة التي للروح بالمكتوب، لأنه بالحقيقة قد جلس الرب على حمار حسي في دخوله من بيت عنيا إلى أورشليم، لأنه هكذا قال النبي: “قولوا لأبنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعاً وجالساً على أتان وجحش بن أتان”، فإذن الرواية صادقة لكني أطلب الأمور التي ترمز إليها، وألتمس قوة الروح.
قد جلس على جحش ونحن لا نشك ولا نجحد مجيئه بالجسد لأنه من أجل هذا أقبل لكي يجد إلهاً لك. ولكي يسترجع الضال. إن الإله المحب للبشر الذي من أجله أقبل يوعز إلى تلاميذه قائلاً لهم : انطلقوا إلى القرية التي أمامكما تجدان جحشاً مربوطاً حِلّاه وأئتيا به إليَّ. خيرات عظيمة منحنا الرب إياها لأنه لم يحل قيودنا من الخطية فقط بل منحنا سلطاناً أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو، لأن الشرير وقوات ظلمة هذا العالم أسرونا فقيدونا وربطونا بقيود لا تنحل ولم يكونوا يسمحون لنا أن نسلك الطرق الصالحة. كنا معهم مقيدين وهم أيضاً بحذاتنا جلوس. قوم أشرار وسادة قساة، لكن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح أقبل ليعطي إطلاقاً للمأسورين والبصر للعميان.
وبالجملة، أرسل تلاميذه فحلوا الجحش، وأعدَّ له مرعى، لأن النبي يوضح هذا: الرب يرعاني فلا يعوزني شيء، في مراعٍ خضر يسكنني على ماء الراحة يوردني”. وقال أيضاً: “يرسل للبهائم عشباً وخضرة لخدمة الناس”.
فلنرجع إذن يا أحبائي، لنقتبل الخيرات الواردة إلينا. فنستطيع أن نقول مع داود النبي: “أعددت قدامي مائدة مقابل الذين يحزنونني”
وقيل “الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه”، ولعل من أجل هذا الجحش اضطجع يسوع في مذود. ألم يكن ليوسف موضع؟ قد كان رجلاً شريفاً وإنساناً منسوباً إلى جنس ملكي، كان ابناً لداود. أفلم يكن له موضع إلا هذا؟ ألم يوجد موضع آخر؟ لكن من البيِّن أن الأمور المدبرة كانت أموراً إلهية، وحقاً إن خصمنا الشيطان حين شاهد هذه الأمور حسد جنس البشر.
فلنفحص ذواتنا إن كانت القيود قد حلت، ولنقبل إلى ما هو أفضل، وإن كانت قيودك لم تُحل بعد فادفع ذاتك إلى تلاميذ يسوع. فقد أخذوا من المخلص سلطاناً مثل هذا: “ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطاً في السماء ..“ وقال أيضاً: “من غفرتم لهم خطاياهم غفرت لهم ومن امسكتموها عليهم أمسكت“.
سعداء هم الذين غفرت خطاياهم وسترت آثامهم.
قال أصحاب الجحش للتلاميذ: لماذا تحلون الجحش؟ فأجاب التلاميذ ان صاحبه محتاج إليه. أنظر إلى إجابة التلاميذ الحكيمة، فإن أصحاب الجحش الكذبة لما سمعوا أن صاحب الجحش الحقيقي في حاجة إليه ولوا ظهورهم ولم يجيبوا، بل اسرعوا إلى رئيسهم الشرير ليخبروه بالأمور التي تمت .. هناك المؤامرة على الرب، لأن هناك التأمت القوى الرديئة، هناك محفل الأشرار كي يتم قول النبي: “قامت ملوك الأرض والرؤساء اجتمعوا معاً على الرب وعلى مسيحه”. لأن الأبالسة قالوا لرئيسهم الشرير ماذا نصنع؟ الجحش قد تم حله ومضى إلى صاحبه، ومن الآن ليس تحت طاعتك ولا تملكه. فكر إبليس ماذا يصنع بيسوع واجتمع الفريسيون والكهنة إلى دار قيافا، واشتركوا في الرأي على المسيح ليهلكوه.
فإذ قد تحررنا من إستعباد الشيطان فلنعرف المحسن إلينا، ربنا يسوع المسيح، الذي له المجد إلى الأبد آمين.
——————————-
المرجع: ميمر القديس أثناسيوس الرسولي من مخطوط 59 طقس بالمتحف القبطي، الذي نشره الشماس يوسف حبيب في كتابه: تاملات القديس أبيفانيوس حول أسبوع الآلام.
Share this content:
إرسال التعليق