تجسد الكلمة – القديس أثناسيوس الرسولي
ملخص* كتاب “تجسد الكلمة“
القديس أثناسيوس الرسولي
+ خلقنا على صورته ومثاله ..
الله خالق وصالح، خلق الله الإنسان من العَدَم، على صورته ومثاله، وكان قصده أن يبقى الإنسان فى سعادة وفي غير فساد، مانحا إياه – بنعمة الكلمة – الحياة الأبدية إن هو أبقي الله في معرفته ولم يخالف الوصية، كما يقول سفر الحكمة “الله خلق الإنسان لعدم الفساد وجعله على صورة أزليته“ (٢٣:٢).
+ السقوط وحكم الموت..
ولكن البشر حَوَّلوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وأحتقروا التفكير في الله ورفضوه، وبمشورة الشيطان تعدوا الوصية وتحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فساد بالموت.
نتيجة السقوط هي موت الإنسان لأنه إنفصل عن الله مصدر الحياة وفقد كل معرفة عن الله وبالتالي بدأ الفساد يَسود علي البشر، ونزعت عنهم نعمة مماثلة صورة الله. هذه النعمة التي كانت تمكنهم من أن يبقوا في شركة الحياة وعدم الفساد…
تمادي البشر في الشر فلم يقفوا عند حد معين في خطاياهم بل صاروا يخترعون الشر.. وكل شر كان يقودهم إلي شر جديد.. وصاروا يسلكون في الفساد والظلم أفرادا وجماعات.. فنشبت الحروب وقامت الأمم ضد بعضها وتمزقت المسكونة كلها..
+ المشكلة الآن ..
١- من المستحيل التهرب من حكم الناموس.
٢- من غير اللائق أن لا ينفذ الله حكم الموت وإلا أصبح الله كاذبا أو طبيعته غير ثابتة.
٣- من غير اللائق أن تهلك خليقة الله العاقلة بسبب غواية الشيطان.
٤- من غير اللائق أن يصبح الإنسان العاقل اﻟﻤﺨلوق على صورة الله آخذا في التلاشي والإنحلال.
٥- لو أهمل الله خليقته وتركها تهلك لدل ذلك على ضعفه.
٦- لو ترك الله البشر ينقادوا للفساد دون تدخل لتعارض ذلك مع صلاح الله.
+ من يستطيع :
* أن يوفي الدين عن الجميع.
* أن يُحوَّل الفاسد إلى عدم فساد.
* أن يعيد خَلقْ البشر، ليكونوا على صورة الله.
* أن يجعل الإنسانَ المائت غير مائت.
* أن يُعلّم البشر عن الآب، ويقضى على عبادة الأوثان.
+ هل تستطيع التوبة:
التوبة لا تستطيع أن تغير طبيعة الإنسان التي صارت إلى الفساد بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعهم عن أعمال الخطية..
+ هل يكفي إصدار أمر لخلاص البشرية:
لماذا لم يُتمم الله أمر خلاص البشرية بإصدار أمر بدون بدون تجسد ، أى بنفس الطريقة التي أَوجَدَ بها البشرية؟
“في البدء لم يكن شئ موجوداً بالمرّة، فكل ما كان مطلوباً هو مجرّد نطق مع إرادة (إلهية) لإتمام الخلق، ولكن بعد أن خلق الإنسان وصار موجوداً استدعت الضرورة علاج ما هو موجود، وليس ما هو غير موجود، لأن الأشياء غير الموجودة لم تكن هى المحتاجة للخلاص، بل كان يكفيها مجرد كلمة أو صدور أمر، ولكن الإنسان (اﻟﻤﺨلوق) الموجود فعلاً والمنحدر إلى الفساد والهلاك هو المحتاج إلى أن يأتى الطبيب أو اﻟﻤﺨلص لكي يشفي الخلائق الموجودة“.
+ هل يستطيع إنسان أو ملاك أن يعيد تجديد الخليقة؟
لا البشر ولا الملائكة، كانوا قادرين على تجديد خلقة الإنسان على صورة الله، وذلك لأن الإنسان هو مجرد مخلوق على مثال تلك الصورة، وليس هو الصورة نفسها، كما أن الملائكة ليسوا هم صورة الله.
وكذلك لابد أن يصبح كلمة الله معروفاً مرة أخرى بين البشر وبه يُعرف الآب، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل، ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلالة عن الله ، ولم يعودوا يعرفون الله عن طريق أعمال الخليقة، بل إنهم ما عادوا يرفعون أعينهم إلى فوق بل صاروا يشخصون إلى أسفل.
+ ضرورة تجسد كلمة الله:
إذن لا يمكن أن يُقضى على فساد البشرية بأى طريقة أخرى سوى الموت نيابة عن الجميع. ووفاء الدين المستحق على الجميع، إذ كان الجميع مستحقين الموت فلابد من أن يقدم نفسه ذبيحه عن الجميع، يبرّرهم ويحرّرهم من المعصية الأولى ويعيدهم لحالتهم الأولى قبل السقوط. ويثبت أن جسده الخاص أقوى من الموت وأنه عديم الفساد وهو باكورة لقيامة الجميع.
كما أن الفساد الذي جرى لم يكن خارج الجسد بل كان ملتصقا به لذا لابد وأن تلتصق الحياة به بدلا من الفساد حتى كما صار الموت فى الجسد تصير الحياة داخل الجسد أيضا.
كلمة الله وحده هو الذي يستطيع أن يُعيد للإنسان تلك النعمة ويَرُدّه إلى حالته الأولى فهو الذي خَلَقَ في البدء كل شئ من العدم وهو وحده القادر أن يأتي بالفاسد إلى عدم الفساد وأيضاً أن يصون ِ صدق.
الآب من جهة الجميع. وحيث إنه هو كلمة الآب ويفوق الكل، كان هو وحده القادر أن يُعيد خلق كل شيء وأن يتألم ويموت عوض الجميع وأن يكون شفيعاً عن الكُل لدى الآب.
تجسد كلمة الله:
أخذ جسداً من جنسنا، وليس ذلك فحسب، بل أخذه من عذراء طاهرة نقية لم تعرف رجلاً، جسداً طاهراً وبدون زرع بشر. لأنه وهو الكائن الكلّى القدرة وبارئ كل شئ، أعد الجسد في العذراء ليكون هيكلاً له وجعله جسده الخاص متخذاً إياه أداة ليسكن فيه ويُظهر ذاته به. وهكذا إذ اتخذ جسداً مماثلاً لطبيعة أجسادنا.
وإذ كان الجميع خاضعين للموت والفساد، فقد بذل جسده للموت عوضاً عن الجميع، وقدّمه للآب. كل هذا فعله من أجل محبته للبشر.
أولاً: لكى إذ كان الجميع قد ماتوا فيه، فإنه يُبطل عن البشر ناموس الموت والفناء، ذلك لأن سلطان الموت قد استُنفَذ في جسد الرب، فلا يعود للموت سلطان على أجساد البشر (المماثلة لجسد الرب).
ثانياً: وأيضاً فإن البشر الذين رجعوا إلى الفساد بالمعصية يعيدهم إلى عدم الفساد ويحييهم من الموت بالجسد، الذي جعله جسده الخاص، وبنعمة القيامة يبيد الموت منهم كما تُبيد النار القش.
ثالثاً: أتي إلي عالمنا كلي القداسة ابن الله وهو صورة الآب لكي يجدد الإنسان الذي خلق مرة علي صورته ويخلص ما قد هلك بمغفرة الخطايا، ”إن كان أحد لا يولد ثانية“ (يو ٥،٣:٣) .. فلابد من إعادة ميلاد النفس وتجديد خلقتها علي صورة الله ومثاله..
رابعاً: ولد وظهر كإنسان، كون لنفسه جسدا من عذراء وحدها بدون رجل ليثبت للجميع أنه الإله صانع جميع الأشياء ، وأظهر سلطانه على كل الأشياء (حول الماء إلي خمر ، وأظهر سلطانه علي البحر ، وشفى الأمراض وطهر البرص وجعل العمي يبصرون والعرج يمشون وأقام الموتى وأظهر سلطانه على الأرواح النجسة) حتى يبصروا الأعمال التي عملها باالجسد ويعرفوا أنه كلمة الله المتجسد ومن خلاله يعرفون الآب..
موته وقيامته من بين الأموات
هو الحياة وكلمة الله، ولكن كان من المحتم أن يموت نيابة عن الجميع، لهذا ولأنه هو الحياة والقوة فقد نال الجسد منه قوة. ولكن لا يمكن أن تكون هناك قيامة ما لم يسبقها موت. ولذا فهو مات أمام شهود، لتكون قيامته أيضاً معلومة للجميع.
قد مات لأجل فداء الجميع، لكنه لم ير فساداً. فقد قام جسده سليماً تماماً إذ لم يكن سوى جسد ذاك الذي هو الحياة عينها.
أتى ليقبل الموت المستحق على الآخرين ويموت لينتصر على الموت ُ مقدماً قيامته دليلاً على انتصاره الأكيد على الموت.
ترقب مجيئه الثاني ويوم الدينونة
تخبرنا الكتب المقدسة بأن كلمة الله سيأتي في ظهوره الثاني اﻟﻤﺠيد، الإلهي والحقيقي. حيث لا يظهر بعد في فقر بل في مجد، ولا يظهر بعد متخفياً متواضعاً بل في عظمته. وهو سيأتي لا ليتألم ثانية بل ليقدم للجميع ثمر صليبه، أي القيامة وعدم الفساد. ولا لكي يُحكم عليه بعد بل ليدين الجميع بحسب ما صنع كل واحد في الجسد خيراً كان أم شراً حيث أعد للصالحين ملكوت السموات، أما للذين عملوا السيئات فالنار الأبدية والظلمة الخارجية. لأنه هكذا يقول الرب نفسه أيضاً ” من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء في مجد الآب “. ولهذا السبب عينه نجد أيضاً كلمة للمخّلص تهيئنا لذلك اليوم إذ يقول “كونوا مستعدين واسهروا لأنه يأتي في ساعة لا تعلمونها“. لأنه بحسب قول الرسول بولس “لأنه لابد أننا جميعاً نُظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً“.
إعتراضات على التجسد
١- هل كان العالم بدون إله وقت تجسد السيد المسيح؟
لم يكن كلمة الله محصوراً في الجسد كما قد يتوهم البعض أو أنه بسبب وجوده في الجسد كان كل مكان آخر خالياً منه، أو أنه بينما كان يحرّك الجسد كان العالم محروماً من أفعال قدراته وعنايته. غير أن الأمر العجيب والمدهش جداً هو أنه مع كونه هو الكلمة الذي لا يحويه شيء فإنه هو نفسه يحوي كل الأشياء. وبينما هو موجود في كل الخليقة فإنه بحسب جوهره هو متميز عن كل الخليقة. فهو حاضر في كل الأشياء بقدرته فقط (وليس بجوهره)، ضابطاً كل الأشياء ومظهراً سيادته على كل شيء، وعنايته بكل شيء، وواهباً الحياة لكل شيء. ومع أنه يحوي كل الأشياء ولا يحتويه شيء، إلاّ أنه كائن كلية في أبيه وحده.
لم يكن مقيداً بسبب الجسد، بل بالحري كان يستخدم جسده، ولذلك فهو لم يوجد في الجسد فقط بل كان موجوداً بالفعل في كل شيء. وبينما كان خارج الكائنات فقد كان في أبيه وحده مستقراً.
٢- كيف يسكن الله كلي القداسة في جسد الإنسان؟
رغم وجود كلمة الله في كل الأشياء إلا أنه لا يستمد منها شيئاً، بل العكس فإن كل الأشياء تستمد منه الحياة وتعتمد عليه في بقائها.
مثال: الشمس: لأنه أن كانت الشمس التي خلقها هو والتي نراها وهى تدور في السماء لا تتدنس عندما تلمس أشعتها الأجسام الأرضية، ولا تفقد نورها بسبب ظلمة هذه الأجسام، لكنها بالعكس تنيرها وتطهرها أيضاً؛ فبالأولى جداً كلمة الله كلّي القداسة، خالق الشمس وربها، لا يتدنس بمجيئه في الجسد، بل بالعكس، فلكونه عديم الفساد، فقد أحيا الجسد المائت وط ّ هره، فهو الذي كُتب عنه ” الذي لم يفعل خطية ولا وُجدَ في فمه مكر”.
٣- لماذا مات كلمة الله ؟ لماذا لم يمنع حدوثه بقدرته ؟
اتخذ كلمة الله لأجل هذا (الموت) جسداً، ولم يكن لائقاً أن يمنع الموت لئلا تتعطل القيامة أيضاً. ولم يكن لائقاً أيضاً أن يسبق المرض موته لئلا يُظن أن ذاك الذي كان في الجسد كان ضعيفاً. ألم يعان الجوع إذن؟ نعم إنه جاع بسبب أن (الجوع) هو من خواص جسده، على أن (هذا الجسد) لم يهلك من الجوع لأن الرب لبس هذا الجسد. لهذا فإنه وإن كان قد مات لأجل فداء الجميع، لكنه لم ير فسادا. فقد قام جسده سليماً تماماً إذ لم يكن سوى جسد ذاك الذي هو الحياة عينها.
أتى ليقبل الموت المستحق على الآخرين ويموت لينتصر على الموت مُقدماً قيامته دليلاً على انتصاره الأكيد على الموت. وأيضاً لأنه لم يكن ممكناً أن يموت من الضعف وهو الذي يشفى الآخرين.
وقد يقول أحد: كان من الأفضل أن يختفي من مؤامرات اليهود لكي يحفظ جسده كلية من الموت. فليسمع مثل هذا أن ذلك الأمر أيضاً لم يكن لائقاً بالرب. لأنه كما لم يكن لائقاً بكلمة الله وهو الحياة أن يُوقِع الموت على جسده بنفسه، كذلك لم يكن لائقاً أن يهرب من الموت الذي يوقعه الآخرون عليه، بل بالحري أن يتعقبه حتى يقضى عليه. ولهذا السبب فإنه بطبيعة الحال لم يسلّم جسده من تلقاء نفسه، كما أنه لم يتهرب من مؤامرات اليهود ضده. وهذا بيّن أنه هو المخّلص وهو الحياة، إذ إنه أولاً: انتظر إلى أن يأتيه الموت ليبيده وثانياً: عندما قُدِّمَ إليه الموت فإنه عجّل بإتمامه لأجل خلاص الجميع.
٤- لماذا لم يُسلِّم جسده بكرامة (على فراش للموت وفى موضع خاص) بدلاً من أن يحتمل موت الصليب المشين هذا ؟
ما فعله اﻟﻤﺨلّص فهو حقاً عمل إلهي ولائق بلاهوته لأسباب كثيرة.
أولاً: إن الموت الذي يصيب البشر عادة يأتيهم بسبب ضعف طبيعتهم وإذ هم لا يستطيعون البقاء لزمن طويل فإنهم ينحلون في الزمن (المحدد). وبسبب هذا أيضاً تنتابهم الأسقام فيمرضون ويموتون. أما الرب فإنه ليس ضعيفاً بل هو قوة الله، وكلمة الله، وهو الحياة عينها.
ثانياً: جاء اﻟﻤﺨلّص لكي يتمم موت البشر، لذلك قَبِل في جسده ذلك الموت الذي أتاه من البشر لكي يبيد ذلك الموت تماماً عندما يلتقي به في جسده. ولكي يؤكد للكل أنه أزال الفساد، وأنه منح أجسادهم عدم الفساد من ذلك الحين فصاعداً. وكضمان وبرهان على القيامة المُعَدّة للجميع فقد حفظ جسده بغير فساد.
ثالثاً: لو أنه وضع جسده (للموت) في مكان خاص وعلى فراش كما يموت البشر عادة لكان الناس قد ظنوا أنه ذاق ذلك (الموت) بسبب ضعف طبيعته، ولظنوا أيضاً أنه لم يكن فيه ما يميّزه عن سائر البشر. أما وأنه هو الحياة وكلمة الله، وكان من المحتم أن يتم الموت نيابة عن الجميع، لهذا ولأنه هو الحياة والقوة فقد نال الجسد منه قوة.
رابعاً: الموت لابد وأن يسبق القيامة، لأنه لا يمكن أن تكون هناك قيامة ما لم يسبقها موت. فلو أن موت جسده كان قد حدث سراً في أي مكان ولم يكن الموت ظاهراً، ولم يحدث أمام شهود، لكانت قيامته أيضاً مخفيّة ولا يوجد دليل عليها.
وكيف يكون لتلاميذه الجسارة على أن يتكلموا عن القيامة إن كانوا لا يستطيعون أن يقولوا إنه مات أولاً؟ أو كيف يمكن أن يصدق أحد قولهم إن الموت حدث أولاً ثم بعد ذلك القيامة لو لم يكن هناك شهود على موته من بين الذين يكلمونهم؟
أما عن موت الصليب:
لأنه إن كان قد جاء ليحمل اللعنة الموضوعة علينا، فكيف كان ممكناً أن (يصير لعنة) بأي طريقة أخرى ما لم يكن قد قَبِلَ موت اللعنة الذي هو (موت) الصليب؟ لأن هذا هو المكتوب: “ملعون كل من علق على خشبة“.
وإضافة إلى ذلك، إن كان موت الرب هو فدية عن الجميع وبواسطة موته هذا نقض “حائط السياج المتوسط“ وصارت الدعوة لجميع الأمم، فكيف كان ممكناً أن يدعونا إليه لو لم يكن قد صُلِبَ؟ لأنه على الصليب وحده يمكن أن يموت إنسان باسطاً ذراعيه. لهذا كان لائقا بالرب أن يحتمل هذا الموت ويبسط ذراعيه، لكي بأحدهما يجتذب الشعب القديم وبالذراع الأخر يجتذب الذين هم من الأمم, ويوّحد الاثنين في شخصه. ” وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع “.
وأيضاً، إن كان الشيطان عدو جنسنا إذ قد سقط من السماء، يجول في أجوائنا السفلية ويتسلط فيها على الأرواح الأخرى المماثلة له في المعصية، ويحاول أن يخدع الذين تغويهم هذه الأرواح كما أنه يعوق الذين يرتفعون إلى فوق، وعن هذا يقول الرسول “حسب رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية“، فإن الرب قد جاء ليطرح الشيطان إلى أسفل، ويطهّر الهواء ويُعِدّ لنا الطريق الصاعد إلى السماء كما يقول الرسول “بالحجاب أي جسده“، وهذا يلزم أن يتم بالموت. فبأي نوع آخر من الموت كان ممكناً أن يتم هذا، إلاّ بالموت الذي تم في الهواء، أي (موت) الصليب؟ فإن الذي يموت بالصليب هو وحده الذي يموت (معلقاً) في الهواء. ولذلك كان لائقاً جداً بالرب أن يموت بهذه الطريقة. لأنه إذ رُفع هكذا فقد طهّر الهواء من كل خبث الشيطان وكل الأرواح النجسة كما يقول: “رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء“ وافتتح طريقاً جديداً للصعود إلى السماء كما هو مكتوب “ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية“.
فلم يكن الكلمة نفسه هو المحتاج لانفتاح الأبواب إذ هو رب الكل، بل نحن الذين حملنا في جسده الخاص. لأنه كما قدّم جسده للموت عن الجميع، هكذا بنفس هذا الجسد أيضاً، أعدّ الطريق للصعود إلى السموات.
٥- لماذا قام في اليوم الثالث بالتحديد ولم يقم قبله أو بعده؟
أظهر كلمة الله نفسه على الصليب بل بالحري فإنه جعل الطبيعة كلها تشهد لحضور خالقها، وبعد ذلك لم يَدَع هيكل جسده يظل وقتاً طويلا ميتاً، إلاّ بالقدر الذي أظهر فيه أن الجسد مات باحتكاك الموت به، ثم أقامه حالا في اليوم الثالث، حاملا عدم الفساد وعدم التألم اللذين حصلا لجسده، كعلامة للظفر والانتصار على الموت.
١- كان يستطيع أن يقيم جسده بعد الموت مباشرة، ويظهره حياً، ولكن اﻟﻤﺨلّص بحكمة وبُعد نظر لم يفعل هذا لأنه لو كان قد أظهر القيامة في الحال لكان من المحتمل أن يقول أحدهم إنه لم يمت بالمرة أو إن الموت لم يلمسه بشكل كامل.
٢- وربما لو كانت القيامة قد حدثت في اليوم التالي للموت مباشرة لما ظهر مجد عدم فساد جسده. ولذلك فلكي يتأكد موت الجسد فإن الكلمة أبقاه يوماً آخر، وفى اليوم الثالث أظهره عديمَ الفساد أمام الجميع. إذاً فلكي يتأكد موت الجسد لذلك أقامه في اليوم الثالث.
٣- ولكن لو أنه أقام الجسد بعد أن بقى فترة طويلة، وبعد أن يكون قد فسد تماماً، فقد يُشَك فيه كأنه قد استبدل جسده بجسد أخر. لأن الإنسان بمرور الزمن قد يشك فيما سبق أن رآه، وينسى ما قد حدث فعلاً. لهذا السبب فإن الرب لم ينتظر أكثر من ثلاثة أيام، كما أنه لم يترك الذين سبق فأخبرهم عن القيامة معلقين لفترة طويلة. ولكن بينما كانت أقواله لا تزال ترن في آذانهم، وكانت عيونهم لا تزال في حالة توقع وعقولهم معلّقة حائرة، وإذ كان الذين قتلوه لا يزالون أحياءً على الأرض وفى نفس المكان، ويمكن أن يشهدوا بموت جسد الرب؛ فإن ابن الله نفسه بعد فترة ثلاثة أيام أظهر جسده الذي كان قد مات غير مائت وعديم الفساد. وقد اتضح للجميع أن الجسد قد مات ليس بسبب أي ضعف في طبيعة الكلمة الذي اتحد بالجسد، بل لكي يُباد الموت فيه (في الجسد) بقوة اﻟﻤﺨلّص.
————————–
المرجع: ملخص من إعداد د. جوزيف موريس (كتاب تجسد الكلمة للقديس أثناسيوس الرسولي، ترجمة د. جوزيف موريس، مركز دراسات الآباء بالقاهرة)
Share this content:
إرسال التعليق