الرمــــــز _ القديس كيرلس الأسكندرى
منهج التفسير الرمزى قد تبنته مدرسة الأسكندرية اللاهوتية، أما المنهج التاريخى الحرفى فقد تبنته مدرسة أنطاكية اللاهوتية، وهذا ما قد سبب الإختلاف بين هذان العملاقان فيما بعد.
– بدايةً يلزمنا أن نتعرف على مفهوم كل من المنهجين فى التفسير:
1- التفسير الحرفى: وهو طريقة تكرار النص الكتابى بأستعمال كلمات مبسطة، وهذا التفسير ضرورى جداً بسبب غموض النص, ولكن يلاحظ أن التكرار لا يكون دائماً أوضح من النص ذاته!! وقد أتبعته بالأخص مدرسة أنطاكية .
2- التفسير الروحى (الرمزى): فى التقليد الأسكندرى هو التفسير الحقيقى للكتاب المقدس، وهذا الأسلوب فى التفسير يرتكز على تخطى الحرف للوصول إلى سر المسيح, وهو سر مختبىء فى كتب العهد القديم, أما فى العهد الجديد فأسلوب التفسير الروحى يقوم على تخطى المادة فى النصوص الكتابية إلى معناها الغير المادى. لقد كان القديس كيرلس الأسكندرى ـ بصفته أحد آباء كنيسة الأسكندرية العظماء ـ متحمساً للتفسير الروحى الرمزى فى الكتاب المقدس.
غير أن نجاحه الفائق فى تطبيقه لمبدأ التفسير الروحى للكتاب، كان يعتمد فى الأساس على التعاليم الخريستولوجية, التى آمنت وعلمت بها كنيسة الأسكندرية، أى أن التعليم اللاهوتى الأرثوذكسى هو الأساس لتفسير الكتاب المقدس تفسيراً صحيحاً و متزناً عند القديس كيرلس.
فمفهوم القديس كيرلس الأسكندرى للتفسير الرمزى يقوم على أساس أن الكتاب المقدس مـثل شخص يسوع المسيح بلاهوته وناسوته، فالصياغة المكتوبة للكتاب المقدس والتى تسرد الأحداث و الوقائع التاريخية التى حدثت فعلاً تتوافق مع ناسوته، فى حين أن المفهوم الروحى للكلمة الإلهية تتوافق مع لاهوته، فالتفسير الروحى يشير إلى الطبيعة الإلهية، بينما الحرف والتاريخ إلى الطبيعة البشرية لله الكلمة المتجسد, وكلً منهما يعملان معاً بغير اختلاط ولا إنفصال, وكليهما يشير إلى الآخر. فكما أن ناسوت المسيح يؤكد ألوهيته, ويرفعنا إليه هكذا أيضاً الكتاب المقدس بصياغته المكتوبة تؤكد على الذهن الروحى وترفعنا إليه.
وبالتالى فإن الكتاب ينبغى أن يُفسر وفق هذان الأتجاهان التاريخى الحرفى، والروحى الرمزى معاً، وهنا نلاحظ أن القديس كيرلس لم ينادى بمفهوم ثنائي للكتاب، بل نادى بعلاقة جوهرية بين المفهومين بحيث لا يوجد مفهوم بدون آخر، كما هو فى حالة الإتحاد الأقنومى بين الطبيعتين فى شخص المسيح الواحد، هكذا بالضبط بالنسبة للمفهومان لا ينبغى ان يصير مزج بينهما و لا إنفصال.
وبهذا فقد حدد التقليد الخريستولوجى طبيعة وعمل الكلمة الكتابية تحديداً صارماً لا يمكن تجاوزه على الإطلاق. و هذه الفكرة تجد منبعها من إيمان القديس كيرلس الكبير بوحدة شخص الرب يسوع المسيح وبالطبيعة الواحدة غير منقسمة التى لله الكلمة المتجسد.
فمثلاً نجده يقول فى الفقرة (15) من رسالته رقم (40) إلى “أكاكيوس” أسقف ميليتين: [عندما تفحص طريقة التجسد بدقة يرى العقل البشرى بلا شك الاثنتين (أى الطبيعتين) مجتمعتين معاً بطريقة تفوق الوصف وبلا اختلاط فى اتحاد. إلا إن العقل لا يقسمهما على الإطلاق بعد أن اتحدتا, بل يؤمن ويعترف بقوة أن الواحد من الاثنتين هو إله وابن ومسيح ورب].
ويقول أيضا فى الفقرة (14) من نفس الرسالة: [ولذلك نقول أن الطبيعتين اتحدتا، ومنهما نتج ابن ورب واحد يسوع المسيح، كما نقبل فى أفكارنا، لكن بعد الاتحاد، إذ قد زال الآن التفريق إلى اثنتين، نؤمن أن هناك طبيعة واحدة للابن كواحد، واحد تأنس وتجسد].
وطبقاً لذلك، فلم يكن تفسير القديس كيرلس للكلام الإلهى تفسيراً رمزياً خالصاً، فهو يقدم توازناً حكيما ً بين كل من التفسيرين الروحى و الحرفى، وذلك لأن قناعاته الأساسية هى أن الكلمة المكتوبة لها طبيعتان أو وجهان وبالتالى فلها مفهومان: تاريخى و روحى رمزى، ولابد أن نعمل على أن نصل إلى هذين المفهومين معاً.
وبهذا فقد استطاع القديس كيرلس أن يتجنب الأفكار غير الأرثوذكسية, والتطرفات الفلسفية الكثيرة التى صدرت من البعض نتيجة للإفراط فى استخدام منهج التفسير الروحى الرمزى من أمثال العلامة ديديموس الضرير والعلامة أوريجانوس، فالقديس كيرلس لا ينحاز إلى أى من التفسيرين فلكل منهما قيمته و يجب أستخدامه بحذر، أى أن القديس كيرلس كان واعياً جداً لأبعاد هذا الأمر. (يتبع)
———————————————————-
المراجع التى لملخص أقتباسنا من مقال هام كالأتى:
[1] محاضرة عن القديس ديديموس الضرير، للدكتور ميشيل بديع ـ الكورسات المتخصصة للمركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية.
[2] الدراسة المتميزة للدكتور جوزيف موريس فلتس عن ” أمثلة من تفسير الآباء للكتاب المقدس ” المنشورة فى كتاب أرثوذكس حقاً و أيضاً أنجيليون / محاضرات مؤتمر العقيدة الأرثوذكسية فى الفيوم ـ سبتمبر 2004، و التى تعتبر أساس لهذا المقال.
[3] رسائل القديس كيرلس لنسطور ويوحنا الأنطاكى (الرسالة 17 ) ترجمة المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية.
Share this content:
تعليق واحد