فرح الميلاد – الأب متى المسكين
فرح الميلاد
الأب متى المسكين
تفسير لقصة الميلاد من إنجيل معلمنا لوقا البشير ــ الإصحَاحُ الثَّانِي (الجزء الخامس والأخير)
إن ما يقوم به أهل الغرب، ليلة الكريسماس، بالفرح والتهليل بكل آلات الموسيقى والغناء والرقص في كل شارع وميدان وزقاق وركن ويخرج الجميع عن رزانتهم، هو استجابة سنوية لتهليل السماء. ومنذ القديم وإشعياء يترنَّم أيضاً بلسان النبوَّة قبل الميلاد بسبعمائة عام:
+ » ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي، يُكْرِم الأخير طريق البحر عَبْرَ الأردن جليل الأمم. الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور. أكْثَرْتَ الأُمَّة، عَظَّمْتَ لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد، كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة (……) لأنه يُولَد لنا ولد، ونُعْطَى ابناً، وتكون الرياسة على كَتِفِهِ، ويُدعى اسمه: عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته ليثبِّتها ويَعْضُدَها بالحق والبرِّ من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا. « (إش 1:9–7)
طوباك يا إشعياء، يا مَنْ رأى النور في حَلَكْ الظلام، والسلام والفرح والبر والملكوت في حجر المولود في مذود بيت لحم!! وهكذا فإن كانت الملائكة سبَّحت بأفضل ما عندها، فلم تعدم البشرية نبيًّا سبَّح بأعظم منها!!
15:2 «وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرِجَالُ الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْواقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ».
وكما أسرعت مريم لزيارة أليصابات لتحكي لها ما فعل الرب بها، أسرع الرعاة أيضاً إلى مريم يحكون لها ما أعلمهم به الرب وما رأوه وسمعوه. وكما تشدَّدت مريم بأليصابات، تشدَّدت مريم بالرعاة.
ويقول التقليد إن مغارة بيت لحم كانت مغارتهم فهدتهم إليها أرجلهم. كما يقول في موضع آخر أن الذي هداهم إلى مأواهم القديم مصباح كان يشتعل، وضعه أصحاب الخان على باب المغارة، فكان الرعاة أول إرسالية اختارتها السماء كمندوبين فوق العادة من ذات المهنة يمثِّلون العذارى الساهرات.
16:2 «فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي الْمِذْوَدِ».
يا للمنظر العجيب والبهي الذي أُغرم به الشعراء والفنانون في كل عصر وكل مِصْر([10]). وكم مئات بل آلاف الصور والتماثيل والكريشات التي ملأت البيوت والقصور والكنائس، وتباهى بها الملوك والرؤساء والأمراء. وكم يلذ للرسامين أن يجعلوا بجوار أُذن الطفل المولود رأس بقرة أو حمار كأنه يُسِرُّ إليه بفرحتهم ويُحيِّي مقْدِمَه إلى دارهم، وقد أصرُّوا جميعاً أن يتنازلوا عن مذودهم الخصوصي لمزيد من راحته، ثم يقدِّمون له شكواهم إذ طال عليهم زمان شقائهم: »لأن انتظار الخليقة يتوقَّع استعلان أبناء الله، إذ أُخضِعَت الخليقة للبُطل ليس طوعاً (وهي بريئة) بل من أجل (آدم) الذي أخضعها على الرجاء (ملعونة الأرض بسببك). لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن…« (رو 19:8–22). وكأنه ليس مصادفة أن يختار المخلِّص مكان ولادته بين الحيوانات وينام مرتاحاً في مذودهم، فهي الخليقة التي عانت أكثر ظلماً والتي تعهَّد باستجابة شكواها.
17:2و18 «فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا الصَّبِيِّ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ».
نعم لقد رأى الرعاة عياناً بياناً كل ما سمعوا من الملاك، فكانوا شهود إثبات أثلجوا صدر يوسف والعذراء، وباركوا الحمل ليوم الصليب!!
ويبدو أن الرعاة أثاروا حولهم الغرباء الذين اكتظت بهم المدينة، فجاءوا مسرعين معهم وسمعوا ونظروا وتعجَّبوا. ولكنهم كانوا ذوي عيون لا تبصر وآذان لا تسمع لأن: »سرَّ الرب لخائفيه.« (مز 14:25)
19:2 «وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا».
وكما تحقق كلام الملاك للرعاة، تحقق كلام الرعاة لكل ما سمعته ورأته العذراء وهي تختزن كل هذه التداخلات الإلهية الفائقة في قلبها. ولكن دون أن يدري القديس لوقا خرجت منه هذه الآية لتفصح بلا أي شك أنه أخذها سماعاً من فم العذراء!!
فكون القديس لوقا ينقل لنا ما قاله الملاك وما قاله الرعاة جيد، ولكن أن ينقل لنا ما بداخل قلب العذراء نفسها فهنا يكون قد باح بسرِّ إنجيله وروايته كلها عن الميلاد!! وهنا لا نعدم عظيماً من عظماء الألمان المتحفظين المتتلمذين على الآباء وهو العالم ثيئودور زاهن (T. Zahn (1838- 1933 ليقرر هذا التقرير الآبائي عينه أن القديس لوقا ينقل من فم العذراء مباشرة!!! وذلك في شرحه لإنجيل القديس لوقا (ليبزج 1913) ص 147. كذلك العالم إيستون B.S. Easton في شرحه لإنجيل القديس لوقا (1926) ص 25، وشورمان Schürmann في شرحه لإنجيل القديس لوقا (1969) ص 117، وكذلك العالم ف. فارر في كتابه: “حياة المسيح” – ترجمة عربية – صفحة 29، حيث يقول:
[على أنه استقاها من شفتي العذراء نفسها، والحقيقة أنه يصعب أن نفطن إلى مورد آخر أخذها عنه، لأن الأمهات هُنَّ المؤرخ الطبيعي لسني الطفولة].
وهؤلاء وغيرهم اتفقوا أن هذه الآية تكشف عن المنبع الذي استقى منه القديس لوقا قصة الميلاد بأكملها، والحق ينطق بهذا!!
20:2 «ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ».
لقد دخل الرعاة شهود سماع ورؤيا وتحقيق لميلاد المسيح، فكانوا علامة تاريخية محقّقة في رواية القديس لوقا. وبذلك أدخلوا ضمناً قصة الميلاد إلى شهادة تاريخية وجغرافية وسماوية معاً لها وزنها. (تمت)
——————————–
([10]) مِصْرٌ مفرد أمصارٌ، وتعني أقطاراً أو بلاداً.
———————————————
للعودة لبدايات حديث القديس لوقا البشير عن ميلاد المخلص
↓↓ أضغط على الصورة ↓↓
Share this content:
إرسال التعليق