كيف سيدين المسيح المسكونة بالعدل (3) – الأب متى المسكين
كيف سيدين المسيح المسكونة بالعدل (3)
الأب متى المسكين
طبيعة الثواب والعقاب في الخلود:
إن الأبرار سيفرحون جداً بمنظره حينما يتراءى في مجده ومجد أبيه مع ملائكته، لأنهم ينظرون إليه فيرى كل واحد وواحدة نفسه وقد انطبعت صورتها على وجهه، فتبدو طاهرة «لا دنس فيها ولا غَضْن أو شيءٍ من مثل ذلك» (أف 27:5)، لأنه مكتوب أنه «متى أُظهر سنكون مثله» (1يو 2:3). نعم، سيفرح الأبرار بالحق حينما يرون أسماءهم منقوشة على كفّه، ولا يجدون في العبور إليه مانعاً، إذ تجذبهم إليه محبته التي اقتنوها في قلوبهم، و يخشون من الاقتراب إليه لأنه يكون لهم جراءة وقدوم بالحق، الذي آمنوا به واعتمدوا منه فنالوا الروح الذي فيهم!! وحينما تتيقظ ضمائرهم في نور حضرته وفي استعلان حقه، يحسون وكأن دم المسيح قد ابتَلاعَ الخطية إلى فناء، ولا يجدون في ماضيهم المكشوف إلا ثوباً مبيَّضياً في دم الخروف. لا يذكرون تعدياتهم فيما بعد، ولا آثامهم تُحسب. وكما يتلاشى الزمان من كيانهم حينما يلجون أعتاب الأبدية، يتلاشى الحزن والكآبة والتنهد. وكما انفصل المسيح عن الخطاة وصار أعلى من السموات، كذلك سنكون نحن أيضاً، لأنه «وإن كنا لا نعرف بعد ماذا سنكون، إلا أننا متأكدون أنه متى أُظهر سنكون مثله» (راجع 1يو 2:3)!!
وفي غمرة أفراح الأبدية وبهجة استعلان حقائق وأسرار الخلود، لا يعود الإنسان يذكر أشباه الحقائق التي عاش فيها سابقاً، بل يحيا في قوة الحق الحاضر بجماله وكأنه قد صار جزءاً فيه.
وحينما يرى الإنسان البار ذاته في المسيح، لا يفقد كيانه كأنه يتلاشى بذاته، بل يحس كمن صار متحداً في مجده، وكأن المسيح حالُّ فيه، فينطلق بالفرح في تسبيح وشكر يدوم إلى الأبد. ثم يرى الجميع مثله تماماً يجمعهم الفرح والتسبيح، مع أن كل واحد له في المسيح بقدر ما نال، لأن فيه منازل كثيرة، ولكنها منازل متمايزة في المجد. ولكن كل واحد يرى منزلته وكأنها الحظوة القصوى، فيصير وله اكتفاء في ذاته، وامتداد لا ينتهي في المسيح:
ــ اكتفاء في ذاته، لأنه لا يجد عوزاً في شيء، لأنه لا يرى أحداً آخر وكأنه أعلى منه ولا مَنْ هو دون عنه … لأن المسيح يملأ الكل في الكل (1كو 28:15 ; أف 23:1 ; أف 10:4).
ــ أما امتدادنا الذي لا ينتهي في المسيح، فلأنه مصدر الحق اللانهائي الذي تتحد به النفس البشرية كامتداد الأضعف في الأعظم، فتظل تكتسب من المعرفة للحق إلى مالا نهاية وتظل تمتد امتداداً لا يشمله تغيير، لأنه خِلْوٌ من الزمان والمكان، باستنارة متزايدة في الحق، يكون الحق فيها علَّتها وهو هو غايتها، وهذا هو ميراث النفس السعيد. وبقدر ماتنال من الحق نهاية, ولن تحس بالحرمان والعوز حتى في سعيها ونموها في الحق، لأن كل درجة تصل إليها تدفعها إلى ما بعدها!
أما الذين أحبوا الظلمة أكثر من النور، وأبغضوا الحق، ومالأوا الإثم والكذب، فحينما يشخصون في وجه السيد القدوس ويسطع نوره وحقه على قلوبهم ــ تنكشف أستارها وتفتضح أفكارها ويغشاهم الخزي المريع، فيرتدُّون بعيداً عن النور ويستعفون من رؤيا وجه الحبيب، والوجود في حضرته، ويكون لهم ما يريدون، كما كان للأرواح النجسة قديماً، حينما طلبوا أن يهربوا من وجهه ويدخلوا قطيع الخنازير بعيداً، فأذِنَ لهم، رحمةً منه.
وسيظل المسيح هكذا رحيماً وإلى أبد الآبدين، حتى وعلى أشد العصاة المتمردين، ولكنها رحمة تحمل في طياتها اختيار البقاء في الحرمان بعيداً عنه، عقاباً أبدياً للذين رفضوا قبول الحق والتآلف مع النور والحياة معه.
وهكذا كما طلبت الشياطين أن يؤذن لها بالدخول في قطيع الخنازير، إذ في ذلك كان راحة لها، كذلك ستكون راحة الخطاة في بكائهم، ولا يتعزون إلا بصرير أسنانهم، ولا يرتاحون إلا في الظلمة بعيداً عن الحق والنور وحضرة الله القدير، لذلك سيطلبونها، ويلحَُون في طلبها، لأنها ستكون أكثر راحة من عذاب الحق المستعلن لهم في حضرة الله.
قد يختلط هنا (في هذا الدهر) الحق بالباطل وتنتفخ أعمال الظلمة على أعمال النور، ويضطهِد المتعظمون المستضعفين والمساكين بالروح، أما في الدهر الآتي فستكون الفُرقة والانفصال الأبدي، فلا يعود يحيا أصحاب الحق إلا بالحق، وما أجمله وما أسعده، ويعود يحيا أصحاب الباطل إلا في الباطل، وما أشقاه وما أتعسه.
والحياة تصير للأولين حقاً مستعلناً في الله، بلا نهاية، وسعادة لا يشوبها أي تعطيل، وللآخرين باطلاً وجهلاً مطبقاً لا يشرق عليه نور.
في هذا الدهر ندرك خطورة ومرارة الرفض الإلهي العتيد أن يكون للمستبيحين والمستبدين في الدينونة المزمعة أن تكون، ونستطيع أن ندرك ذلك إدراكاً صحيحاً دقيقاً واعياً، ونستطيع أيضاً أن نتداركه قبل فوات الأوان بإمكانيات سهلة حاضرة، لذلك وضع المسيح وصاياه وتحاذيره، ووصف مخاطر العناد والرفض بأوصاف نستطيع أن نحسها الآن وندركها بحاسة الحق الذي فينا وبإحساسات المنطق والضمير والقياس على كل فعل ورد فعل.
ولكن كل هذه الإمكانيات ستزول نهائياً، عندما نُستدعى لنقف أمام كرسي الديان، ولا تعود فرصة لمعرفة أو فرصة لاختيار.
النار والدود والخطايا:
والنار والدود هي إحساسات نفسية وذهنية تنعكس آلامها على الجسد غير المائت فيصيبه منها ما هو أكثر من النار المادية والدود الأرضي. فلا النار تفارق الإحساس ولا التصور، ولا الدود يكف عن نهش أجسادهم غير المائتة.
ولو كانت النار والدود موضوعات مادية لهان الأمر، ولكنها حقائق نفسية داخلية، كما يحدث في هذا الزمان حينما يصاب الإنسان بالجنون، فإنه يحس بنار أو حيَّات أو عقارب أو ميكروبات تنهش في جسده، فيصرخ منها بفزع أليم، ويحس بأوجاع نفسية وجسدية معاً، ويهرب ولا مطارد, وعندما يحاول أقرباؤه أن يقنعوه أنه لا يوجد شيء أمامه مثل هذا، فإنهم يكونون كمجانين مازحين عنده، لأنه يحس بها إحساساً قوياً مؤلماً، ويراها بعينيه، ويشير إليها بأصبعه، ولكن هيهآت أن يهرب منها! فهي تتعقبه أينما سار ولن يعتقه من صراعه الأليم إلا الموت … ولكن ليس موت في الدهر الآتي ولا أمل.
كثيرون يعيشون في هذا العالم بإحساس شديد من نحو الخطية وهي لا تكاد تفارقهم لحظة حتى أثناء نومهم ــ وهي تتمثل لهم في حديث الناس الهزلي وفي حديث الناس الجدَّي، كأنما يتحدثون عنها، وكأن الجميع يشيرون عليهم أنهم خطاة.
والإنسان في هذه الحالة لا يكاد يستقر في مكان، ولا يطمئن لإنسان، ولا يستمتع بأي شيء من خيرات العالم الكثيرة، وكأن العالم أصبح لهم جحيماً لا يُطاق لا يرى فيه أي خير أو حق. وهذه الحالة، ولو أنها مَرَضية، لكنها صورة قريبة للحالة التي سيواجهها الخطاة في الدهر الآتي فخطاياهم ستصير ماثلة أمامهم دائماً، تسير أمامهم وتتعقبهم.
خلود الأشرار:
وليس للأشرار خلود خاص غير الخلود العام. فالخلود هو الوجود، وسوف يشترك فيه كل ذي نفس خالدة مهما كان مقبولاً أو مرفوضاً.
ولكن كما أن هذا العالم يحوي السعيد والبائس، وشمس واحدة تشرق عليهما, كذلك في الخلود. ولكن الفرق بين الخلود والزمان الحاضر فرق طفيف، هو زوال الصورة المتأثرة بعوامل الزمن والتغيير، وبقاء جوهر الأشياء والمخلوقات الخالدة التي لن تتغير طبيعتها بزوال الزمان والمكان.
فالعالم الحاضر صورة مادية تحوي في كيانها حقيقة الوجود، وسوف يفقد العالم الحاضر صورته المادية المتغيرة والزائلة، ليصير إلى الوجود غير المادي غير المتغير.
وخلود الأشرار يكون امتداداً لوجودهم الحالي، بكيفية ما، ولكن بغير الزائل والزائف الذي أحبوه وألفوه وعبدوه. لذلك سوف يكون وجودهم خالياً من مسراتهم التي أوقفوا عليها كل رجائهم غشاً وخداعاً. (تمت)
——————————————–
الجزء الثالث والأخير لكتاب “كيف سيدين المسيح المسكونة بالعدل”
وهو نص خطاب للأب متى المسكين لأحد الأخوة السائلين عام 1958م
————————–
كما يمكن العودة لبداية خطاب الأب متى المسكين – الجزء الأول
↓↓ أضغط على الصورة ↓↓
Share this content:
إرسال التعليق