×

حياة الأنبا انطونيوس – للقديس أثناسيوس الرسولى

حياة الأنبا انطونيوس – للقديس أثناسيوس الرسولى

حياة الأنبا انطونيوس [1]

للقديس أثناسيوس الرسولى

أثناسيوس الأسقف إلى الأخوة فى الأرجاء الأجنبية، لقد دخلتم فى منافسة نبيلة مع رهبان مصر بعزمكم إما على مساواتهم، أو التفوق عليهم فى التدريب فى طريق الفضيلة. إذ توجد الآن لديكم أديرة، وأصبح اسم الراهب يلقى احتراماً عاماً. لذلك فمن البديهي أن جميع الناس سوف يحبذون هذا العزم الذى سيحققه الله استجابة لصلواتكم.

ونظرا لأنكم طلبتم منى أن أقدم وصفاً عن طريق حياة أنطونيوس المباركة، ولأنكم تريدون أن تعرفوا كيف بدأ نسكه. وأي إنسان كان هو قبل هذا، وكيف ختم حياته، وعما إذا كانت الأخبار التي تروى عنه صحيحة، لكي تقتدوا أنتم أيضاً به، فإنني بكل استعداد قد قبلت تحقيق رغبتكم، لأنني أعتبر أن مجرد ذكريات أنطونيوس عون كبير لي أنا أيضاً.

وأنا أعرف أنكم عندما تسمعون فأنكم ـ فضلا عن الإعجاب بالرجل ـ سترغبون فى الاقتضاء بعزمه إذ ترون فى حياته نموذجاً كافياً للنسك لذلك فلا ترفضوا تصديق ما سمعتموه من أولئك الذين نقلوا إليكم الأخبار عنه. بل اعتقدوا بالأحرى أنهم إنما لم ينبؤكم إلا بأمور ضئيلة، لأنهم على أي حال يندر أن يكونوا قد أعطوكم تفصيلا عن موضوع جوهري كهذا.

ولأنني كطلبكم استعدت من ذاكرتي قليلا من الظروف عنه، وسأرسل إليكم كل ما أستطيع ذكره فى رسالة، فلا تتوانوا عن سؤال من يبحرون من هنا، لأنه إذا ما روى الجميع ما عندهم من أنباء فقد يتعذر أن يكون الوصف مطابقاً للحقيقة، ومن أجل هذا فإنني لدى استلام خطابكم كنت أرغب فى استدعاء رهبان معينين سيما الذين رافقوه كثيراً عنى إذا ما علمت منهم أية تفاصيل جديدة بعثت بها إليكم.

ولكن نظراً لأن موسم الإبحار قرب على الانتهاء. ونظراً لاستعجال حامل خطابكم لذلك أسرعت فى الكتابة إليكم عما أعرفه أنا شخصياً إذ رأيت أنطونيوس مراراً، وعما استطعت أن أتعلمه منه لأنني لازمته طويلاً. وسكبت ماء على يديه، وفى كل هذا كنت أذكر هذه الحقيقة أنه يجب أن لا يرتاب المرء إذاً ما سمع كثيراً عن الرجل. ومن الناحية الأخرى يجب أن لا يحتقر الرجل إذاً ما سمع عنه قليلاً.

1. أود أن تعلموا أن أنطونيوس كان مصرياً بمولده، وكان والده من أسرة طيبة. وكان يمتلكان ثروة لا بأس بها. ولأنهما كانا مسيحيين فقد تربى هو أيضاً فى نفس الإيمان ، وفى الطفولة مع والديه لا يعرف شيئا آخر سواهما وسوى بيته. ولكنه بعد أن كبر وصار صبياً وتقدم فى السنين لم يطق أن يتعلم القراءة والكتابة، ولم يبال بأن يزامل الأولاد الآخرين. بل كانت كل رغبته أن يعيش إنساناً بسيطاً فى بيته كما كتب عن يعقوب [2].

وقد تعود حضور بيت الرب مع والديه، ولم يكن كطفل بليداً، ولا احتقرهما لما كبر، بل كان مطيعاً لأبيه وأمه مصغياً لكل ما كان يقرأ، حافظاً فى قلبه ما كان نافعاً. مما سمع ، ومع أنه كطفل نشأ فى حاله متوسطة فانه لم يتعب والديه بطلب الأشياء الفاخرة، ولا كانت هذه مصدر سعادة له، بل قنع بما وجده ولم يطلب المزيد.

2. وبعد موت أبيه وأمه ترك وحيداً مع أخت واحدة صغيرة وكان عمره 18 أو 20 عاماً، فألقيت إليه مسئولية العناية بالبيت وبالأخت، ولم يمض على وفاة والديه ستة أشهر حتى ذهب ذات يوم كعادته إلى بيت الرب، وفى ذلك اليوم ناجى نفسه وتأمل وهو سائر كيف أن الرسل تركوا كل شئ وتبعوا المخلص [3]، وكيف ذكر عنهم فى أعمال الرسل أنهم باعوا ممتلكاتهم وأتوا بأثمانها ووضعوها عند أرجل الرسل لتوزيعها على المحتاجين [4], وكيف وضع لهم رجاء عظيم فى السماء.

ava-Antonious022 حياة الأنبا انطونيوس - للقديس أثناسيوس الرسولىوإذا كان يتأمل فى هذه الأمور دخل الكنيسة أثناء قراءة الإنجيل فسمع الرب يقول للغنى إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط للفقراء، وتعال اتبعني فيكون لك كنز فى السماء” [5]. أما أنطونيوس فكأن الله قد ذكره بالقديسين، وكأن تلك الفقرة قرئت لـه خصيصاً. وللحال خرج من الكنيسة وأعطى القرويين ممتلكات آبائه، وكانت ثلاثمائة فدان من أجود الأراضي، لكي لا تكون عثرة فى سبيله هو و أخته، وباقي المنقولات باعها. وإذ توفرت لديه أموالاً كثيرة أعطاها للفقراء، محتفظا بالقليل لأخته .

3. دخل الكنيسة ثانية وسمع الرب يقول فى الإنجيل: “لا تهتموا للغد” [6], فلم يستطيع البقاء أكثر من ذلك، بل خرج وأعطى تلك الأشياء أيضا للفقراء. وإذ أودع أخته لبعض العذارى المعروفات الأمينات، ووضعها فى دير [7] لتنشأ فيه، تفرغ هو للنسك خارج بيته محترساً لنفسه ومدرباً ذاته بالصبر، إذ لم تكن هنالك إلى ذلك الوقت أديرة [8] كثيرة فى مصر، ولم يعرف أي راهب على الإطلاق أي شئ عن البراري البعيدة ، بل كان على من أراد أن يحترس لنفسه أن يتدرب على النسك فى عزلة بجوار قريته.

وفى ذلك الوقت كان فى القرية المجاورة رجل مسن عاش عيشة النسك منذ شبابه، وبعد أن رأى أنطونيوس ذلك الرجل اقتدى به فى التقوى. وفى أول الأمر ابتدأ أن يقيم فى أماكن خارج القرية. وبعد ذلك كان كلما سمع عن رجل صالح فى أي مكان خرج يطلبه مسرعاً كالنحلة النشيطة، ولا يرجع إلى مكانه إلا بعد أن يراه. وعاد بعد أن تزود من صلاح الرجل بالزاد الكافي لارتحاله فى طريق الفضيلة.

وإذا أقام هناك فى بداية الأمر صمم على عدم العودة إلى أماكن إقامة آبائه، أو العودة إلى ذكر أقربائه، بل عقد النية على إكمال النسك. وعلى أي حال فقد كان يعمل بيديه، إذ كان قد قرأ أن الكسول لا يأكل [9] وكان ينفق جزءاً لأجل القوت، ويعطى الجزء الآخر للفقراء. وكان مثابرا على الصلاة، عالما أن المرء ينبغي أن يصلى فى السر بلا انقطاع [10]، لأنه تمسك بما قرأ بحيث لم يسقط منه إلى الأرض شئ مما كتب. بل تذكر الكل وبعد ذلك أغنته ذاكرته عن الكتب.

4. وإذا سلك أنطونيوس هكذا أصبح محبوباً من الجميع. وكان يخضع بإخلاص لكل من زارهم من الرجال الصالحين. وعرف تماما أين كان يفوقه كل منهم فى الغيرة والنسك. لاحظ لطف هذا. وصلاة ذاك بلا انقطاع. وعرف تحرر ذاك من الغضب، ورقه ذاك. لاحظ هذا وهو يسهر وذاك وهو يدرس. أعجب بهذا من أجل صبره وقوة احتماله وبذاك من أجل صومه ونومه على الأرض. راقب باهتمام وداعة هذا وطول أناة ذاك. كما لاحظ تقوى الجميع نحو المسيح ومحبتهم المتبادلة.

وهكذا إذا امتلأ غيرة عاد إلى مكان نسكه. ومن ثم جاهد لاتخاذ صفات الجميع، وتاق لإبراز فضائل الجميع فى حياته. لم يحاول منافسة نظرائه فى السن. سوى فى هذا الأمر الواحد وهو أنه لم يشأ أن يكون أقل منهم فى الأمور الأسمى. وهذا ما فعله بحيث لا يجرح شعور أي واحد، بل جعلهم يفرحون به. وهكذا عندما رآه بهذه الحال كل أهل تلك القرية والأشخاص الصالحون الذين تودد إليهم صاروا يدعونه حبيب الله. ورحب به البعض كابن، وغيرهم كأخ.

ladda-ned حياة الأنبا انطونيوس - للقديس أثناسيوس الرسولى5. على أن الشيطان الذى يبغض ويحسد الصلاح، لم يطق أن يرى مثل هذا الثبات فى شاب، بل حاول أن يهجم عليه بمثل ما اعتاد أن يؤثر على الآخرين. ففي بداية الأمر حاول أن يبعده عن النسك هامساً فى أذنيه بذكريات ثروته، ومحبة المال، والعناية بأخته، ومطالب الأقارب، ومحبة المجد، وملذات الطعام، وسائر تنعمات الحياة، وأخيراً صعوبة الفضيلة وما تتطلبه من عناء. ثم صور أمامه أيضاً ضعف الجسد وطول الوقت. وبالاختصار آثار فى ذهنه خزعبلات كثيرة، محاولاً أن يثنيه عن عزمه الثابت. على أن العدو عندما رأى نفسه ضعيفاً أمام عزم أنطونيوس، وغلب على أمره بسبب إيمانه العظيم، وتعثر بسبب صلواته المستمرة، اعتمد أخيراً على أسلحته التى فى عضل بطنه[11], والتي يفتخر بها، لأنها هي شراكه الأول للشباب، هاجم الشاب وأزعجه ليلاً وضايقه نهاراً، حتى لاحظ الصراع القائم بين الاثنين كل الذين نظروا إليه، فالواحد يعرض الأفكار الشريرة، والآخر يصدها بالصلوات، الواحد يصوب سهام الشهوة، والآخر يحمر خجلاً فيحصن جسده بالإيمان والصلوات والصوم.

على أن الشيطان التعس اتخذ شكل امرأة فى إحدى الليالي وقلد كل حركاتها لإغراء أنطونيوس. أما هو فإذا امتلأ عقله بالمسيح وبما بعثه فيه من نبل، وإذ فكر فى روحانية النفس أطفأ جمر خداع الطرف الآخر. ثم حاول العدو أن يجذبه بنشوة الملذات. أما هو فقد فكر كثيراً فى الدينونة الرهيبة ثم فكر بالأكثر فى المجد الأسنى. و بإشهاره هذه فى وجه الخصم جاز التجربة دون أن يمس بأذى. كل هذا كان مصدر خزي لعدوه. لأنه إذ اعتبر نفسه كأنه هزأ به شاب، وذاك الذى افتخر على اللحم والدم اضطر أن يهرب أمام إنسان فى الجسد. لأن الرب كان يعمل مع أنطونيوس، الرب الذى من أجلنا أخذ جسداً [12]، ووهب الجسد نصرة على إبليس، حتى يستطيع كل من يحارب بإخلاص أن يقول لست أنا، بل نعمة الله التي معي [13].

6. وأخيراً عندما عجز التنين عن غلبة أنطونيوس، ووجد نفسه بالأحرى أنه قد طرد من قلبه، أصر على أسنانه، وظهر لأنطونيوس كولد أسود، متخذاً شكلاً منظوراً يتفق ولون عقله. وإذ تظاهر بالتذلل أمامه لم يشأ أن يلح عليه بأي أفكار فيما بعد، لأنه إذ تنكر هزم أمامه. وأخيرا تكلم فى صوت بشرى وقال: “لقد خدعت كثيرين وطرحت كثيرين، ولكنني برهنت على ضعفى إذ هاجمتك وهاجمت كل جهودك وأتعابك كما هاجمت كثيرين غيرك. وعندما سأل أنطونيوس: “من أنت يا من تتكلم هكذا معي؟ أجاب بصوت أسيف : “أنا صديق الزنى، وقد التحفت بالإغراءات التي تدفع الشبان إليه. أنا أدعى روح الشهوة. كم خدعت الكثيرين الذين أرادوا أن يعيشوا باحتشام، وما أكثر العفيفيين الذين أقنعتهم باغراءاتى. أنا الذى من أجلى يوبخ النبى أولئك الذين سقطوا قائلاً: “روح الزنى قد أضلكم” [14], لأنهم بي قد اعثروا. أنا الذى ضايقتك كثيرا وغلبت منك كثيراً.

أما أنطونيوس فإذا قدم الشكر للرب قال له بكل شجاعة: “إذاً فأنت حقير جداً، لأنك أسود القلب، وضعيف كطفل. ومن الآن فصاعداً لن أجزع منك، لأن الرب معيني وأنا سأرى بأعدائي” [15]. وإذا سمع هذا، ذلك الأسود، هرب للحال مرتجفا من الكلام ولم يجسر حتى على الاقتراب إلى الرجل.

7- كان هذا هو الصراع الأول لأنطونيوس ضد إبليس، أو بالحرى كانت هذه النصرة هي عمل المخلص فى أنطونيوس إذ دان الخطية فى الجسد لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح” [16]. ولكن بالرغم من سقوط الشرير فإن أنطونيوس لم يتراخ فى حرصه، ولم يستهن به، كما أن العدو لم يكف عن نصب الفخاخ لـه حتى بعد أن غاب عنه. فإنه صار يجول حوله كأسد طالبا ضده أي فرصة.

أما أنطونيوس فإذ تعلم من الكتب أن مكايد إبليس كثيرة [17]، استمر فى النسك بغيرة معتبراً أنه، وإن كان إبليس قد عجز عن خداع قلبه بالملذات الجسدية فقد يحاول أن يصطاده بوسائل أخرى، لأن الشيطان يحب الخطية. من أجل هذا اجتهد أن يقمع جسده أكثر فأكثر ويستعبده [18]. لئلا بعد أن ينتصر فى إحدى النواحي يغلب فى الأخرى. لذلك اعتزم أن يمرن نفسه على نوع من الحياة أشد صرامة، وقد تعجب الكثيرون، أما هو فتحمل التعب بسهولة. لأن حماسة الروح التي لازمته طول الوقت أنشأت فيه عادة طيبة حتى أنه أظهر غيرة شديدة فى هذه الناحية وإن كان لم يتلق من الآخرين سوى القليل من الإرشادات. وكان يسهر طويلا لدرجة أنه كثيرا ما كان يقضى الليل مصليا دون أن ينام، وهذا لم يفعله مرة واحدة بل مراراً حتى عجب منه الآخرون.

وكان يأكل مرة واحدة فى اليوم، بعد الغروب، وفى كثير من الأحيان مرة كل يومين، وفى بعض الأحيان مرة كل أربعة أيام، أما طعامه فكان الخبز والملح. وشرابه الماء فقط. أما عن اللحم والخمر فقد كان مجرد الكلام عنهما يعد ترفا، طالما كان الأشخاص الآخرون الغيورون لا يتعاطون منهما شيئا. وكان يكفيه أن ينام على حصيرة خشنة. ولكنه غالبا كان ينام على الأرض عارية.

وأبى أن يدهن نفسه بالزيت [19], قائلا أنه يليق بالشبان أن يكونوا جادين فى التدريب دون أن يطلبوا ما يلطف الجسد، بل يجب أن يعودوه على العمل متذكرا كلمات الرسول: “حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى” [20]. وقال: “لأن قوة النفس تكون سليمة عند الإقلال من ملذات الجسد. وقد وصل إلى هذه النتيجة العجيبة حقا: “إن التقدم فى الفضيلة. والاعتزال عن العالم من أجلها. يجب أن لا يقاسا بالزمن بل بالرغبة وثبات العزيمة.

وهو على الأقل لم يبال بالماضي بل كان يوماً فيوماً ـ كأنه فى بداية نسكه ـ يبذل مجهوداً أشق نحو النمو. مكرراً لنفسه على الدوام قول بولس: “أنسى ما وراء وأمتد إلى ما هو قدام” [21]. وكان يذكر أيضا الكلمات التي قالها ايليا النبى: “حي هو الرب الذى أنا واقف أمامه اليوم[22]لأنه لاحظ أن النبى بقوله اليوم لم يخص الزمن الذى مضى بل سعى باهتمام كل يوم، وكأنه على الدوام مبتدئ. لكي يجعل نفسه جديراً بالظهور أمام الله. نقى القلب مستعداً دائماً للخضوع لمشورته ولـه وحده، وقد تعود أن يقول لنفسه: “إن الناسك ينبغي أن يرى حياته فى حياة ايليا العظيم كما فى مرآة.

882500852 حياة الأنبا انطونيوس - للقديس أثناسيوس الرسولى8. وهكذا إذ ضيق أنطونيوس الخناق علي نفسة ارتحل إلى المقابر التي تصادف أن كانت على بعد من القرية. وإذ طلب إلى أحد معارفه أن يحضر لـه خبزاً فى فترات متعاقبة. تعد كل فترة بأيام كثيرة، دخل إلى مغارة، وبقى فيها وحيداً بعد أن أغلق عليه صديقه الباب، وعندما لم يحتمل العدو هذا، بل بالحرى فزع لان أنطونيوس ملأ البرية بنسكه فى فترة وجيزة أتاه فى إحدى الليالي مع جمع من الشياطين ومزقه بجلدات حتى ألقاه على الأرض فاقد النطق بسبب الألم المبرح. لأنه أكد أن الآلام كانت شديدة الوطأة جدا لدرجة أن ضربات أي إنسان لم يكن ممكنا أن تسبب له تلك الآلام.

ولكنه بعناية إلهية ـ لأن الرب لا يتخل عمن يرجونه ـ أتى صديقه فى اليوم التالي حاملاً إليه الأرغفة. وإذ فتح الباب ورآه ملقى على الأرض وكأنه ميت رفعه وحمله إلى الكنيسة فى القرية، وأضجعه على الأرض. والتف حول أنطونيوس الكثيرين من أقاربه وأهل القرية كأنهم قد التفوا حول جثة.

ولكنه نحو نصف الليل أفاق إلى نفسه وقام، وعندما رآهم جميعا نياماً ورأى أن صديقه وحده هو الساهر معه أومأ إليه أن يحمله ثانية إلى القبور دون أيقاظ أحد.

9. لذلك حمله الرجل. وعندما أغلق الباب صار وحده كعادته. ولم يستطيع الوقوف بسبب الضربات. بل صلى وهو راقد. وبعد أن صلى قال بصوت عال: ها أنا أنطونيوس لا أهرب من جلداتك، فإنك إن ضربتني ضربات أوفر فلن يستطيع شئ أن يفصلني عن محبة المسيح[23] وبعد ذلك رنم: “إن نزل علىَّ جيش لا يخاف قلبي.”[24] كانت هذه هي أفكار وكلمات هذا الناسك.

أما العدو مبغض الصلاح إذ تعجب من تجاسره على العودة بعد الضربات فقد دعا كلابه معاً وانفجر قائلاً: “أنتم ترون أننا لم نقو على الرجل، لا بروح الشهوة ولا بالضربات، فانه لم يبال بنا. فلنهجم عليه بطريقة أخرى”. على أن تغيير الشكل من أجل الشر هين على إبليس لذلك اصطنعوا فى الليل رنينا حتى بدأ كأن كل المكان قد هزه زلزال وبدأ كأن الشياطين قد حطمت جدران المسكن الأربعة ودخلت منها آتيه فى شكل الدواب والزحافات. وامتلأ المكان بغتة من أشكال الأسود والفهود والثيران والحيتان والأفاعي والعقارب والذئاب، وكان كل منهم يتحرك كطبيعته.

كان الأسد يزأر يريد الهجوم وبدأ الثور كأنه يدفع  بقرنيه والحية تتلوى ولكنها لا تستطيع الاقتراب والذئب إذ هجم صد. وهكذا كانت أصوات الأشباح فى ثورتها مخيفة.

أما أنطونيوس إذ ضربته ونطحته هذه الوحوش، أحس بآلام جسدية أشد وعلى أية حال فإنه كان يرقب، وهو مضطجع، ولم تتزعزع نفسه وسط آلامه الجسدية. على أن عقله كان صاحياً. وقال هازئا: “لو كانت فيكم أية قوة لكان يكفى أن يأتي واحد منكم، ولكن لأن الرب قد جعلكم ضعفاء فإنكم تحاولون أن تفزعوني بكثرة عددكم، والدليل على ضعفكم اتخاذكم شكل البهائم غير الناطقة”. ثم قال أيضا بجرأة: “إن كنتم قادرين، ولكم سلطة علىَّ، فلا تتأخرون عن الهجوم، أما أن كنتم غير قادرين فلماذا تتعبوني باطلا، لأن الأيمان بربنا حصن وسور أمان لنا”. وهكذا بعد محولات كثيرة أصروا بأسنانهم عليه، لأنهم كانوا يهزءون بأنفسهم لا به.

10. ثم أن الرب لم ينس صراع أنطونيوس بل كان قريبا لمعونته. وهكذا إذ تطلع إلى فوق رأى السقف كأنه قد انفتح، وأشعة من نور نازلة إليه، وللحال اختفت الشياطين، وانقشع ألم الجسد وعاد البناء سليماً. أما أنطونيوس فإذ أحس المعونة، وتنفس الصعداء ثانية، وتحرر من الألم، طلب إلى الرؤية التي ظهرت إليه قائلاً: “أين كنت، لماذا لم تظهر فى البداية لتضع حدا لآلامي” فأتاه الصوت قائلاً: “يا أنطونيوس لقد كنت هنا، ولكنني انتظرت لأرى جهادك، ولأنك احتملت ولم تهزم فسأكون عونا دائماً لك، وأجعل اسمك معروفا فى كل مكان”.

وإذ سمع أنطونيوس هذا قام وصلى، ونال قوة بحيث أدرك أن جسده صار أشد قوة من قبل، وكان عمره وقتئذ نحو خمسة وثلاثين عاما.

11. وفى اليوم التالي خرج أشد ميلاً لخدمة الله، وإذ التقى بالشيخ الذى سبق أن قابله طلب منه أن يسكن معه فى البرية، ولكن عندما رفض الشيخ بسبب كبر سنه، ولأنه لم تكن هنالك عادة كهذه إلى ذلك الوقت، قصد أنطونيوس الجبل فى الحال. ومع ذلك فإن العدو إذ رأى غيرته ثانية وأراد صدها ألقى فى طريقه ما بدا كأنه طبق فضي كبير. أما أنطونيوس فإذ رأى مكر الشيطان، وبعد أن تطلع إلى الطبق خجل الشيطان به قائلاً: “كيف يأتي طبق فى البرية، ليس هذا الطريق مطروقا، ولا توجد هنا آثار لأى عابر، ولا يمكن أن يكون قد سقط دون أن يحس به صاحبه وذلك بسبب كبر حجمه، وان كان قد فقده أحد فلابد له من العثور عليه إن عاد للبحث عنه لأن المكان قفر،هذه حيلة من إبليس. أيها الشرير ليس بهذا تصدني عن قصدى، فلتذهب إلى الهلاك[25]“. وإذ قال أنطونيوس هذا انقشع الطبق كالدخان أمام النار.

12. بعد ذلك أيضاً سار فرأى فى هذه المرة ما لم يكن خيالياً، بل ذهباً حقيقياً مبعثرا فى الطريق. وتبين للشرير أن أنطونيوس لم يكن يبالي بالمال يقينا، فقد تعجب أنطونيوس من عظم الكمية، ولكنه جاز مقابلة كأنه سائر فوق نار. ولم يلتفت يمنة أو يسرة، بل أسرع راكضاً لكي لا يعود يبصر المكان. وإذ ازداد ثباتا فى عزمه أكثر فأكثر أسرع إلى الجبل.

وعندما وجد حصناً مهجوراً منذ مدة طويلة لدرجة أنه كان ممتلئا بالزحافات، وكان على ضفة النهر المقابلة، عبر النهر إليه وسكن هناك أما الزحافات فقد غادرت المكان فى الحال كأنما قد طاردها شخص ما. على أنه بنى المدخل وأكمله واختزن أرغفة لمدة ستة أشهر، وهذه عادة أهل طيبة وكثيرا ما حفظوا الأرغفة سنة كاملة، وإذ وجد مياهاً داخلة نزل كأنه ذاهب إلى مزار، وسكن فيه بمفرده، دون أن يخرج منه قطعا أو يتطلع إلي أي شخص جاء اليه، وهكذا قضى وقتا طويلا  فى تدريب نفسه، وكان يتقبل الأرغفة التي تدلى إليه من فوق مرتين فى السنة.

13. على أن معارفه الذين أتوا إليه، كان لا يأذن لهم بالدخول ولذلك كثيرا ما كانوا يقضون أياما وليالي خارجاً، ويسمعون صوتا كجلبة وضوضاء جماهير فى الداخل، يطنون ويبعثون أصواتا أسيفة صارخين: “غادر مكاننا. أنى لك أن تأتى حتى إلى البرية ؟ انك لا تستطيع أن تقوى على هجومنا، وفى بداية الأمر ظن هؤلاء الذين من خارج أن هناك أشخاصا يحاربونه وأنهم دخلوا بسلم، ولكنهم لما انحنوا إلى أسفل ونظروا من ثقب ولم يروا أحدا، خافوا وحسبوهم شياطين، فنادوا أنطونيوس، وللحال سمعهم ولم يخطر بباله أنهم الشياطين وإذ أتى إلى الباب رجاهم أن ينصرفوا ولا يخافوا قائلا: “لأن الشياطين توجه هجماتها المنظورة إلى الجبناء، إذا فارسموا أنفسكم بعلامة الصليب[26] وانصرفوا بشجاعة ودعوا هؤلاء يسخرون من ذواتهم”.

وهكذا انصرفوا متحصنين بعلامة الصليب. أما هو فلبث دون أن تمسه الأرواح الشريرة بأي أذى، كما أنه لم يتعبه النضال المستمر، إذ أتت لمعونته رؤى من الأعالي. أما ضعف العدو فقد أراحه من تعب كثير وسلحه بغيرة أشد، لأن معارفه طالما أتوا إليه متوقعين أن يجدوه ميتا، فكانوا يسمعونه مترنماً “يقوم الله ويتبدد أعدائه ويهرب مبغضوه من أمام وجه، كما يذرى الدخان تزريهم، كما يذوب الشمع قدام الله”[27]. وأيضا “كل الأمم أحاطوا بي، باسم الرب أبيدهم”[28].

14. وهكذا ظل زهاء عشرين عاما يدرب نفسه فى الوحدة، لا يخرج قط، ويندر أن يراه أحد، بعد هذا لما كثر الذين أرادوا برغبة حارة أن يقلدوا نسكه، ولما أتى معارفه وبدءوا يقتحمون الباب، خرج إليهم متعمقاً فى الأسرار وممتلئاً بروح الله. ولأول مرة رؤى خارج الحصن من أولئك الذين أتوا لرؤيته، وعندئذ تعجبوا من المنظر عندما رآه، لأنه كان له نفس هيئة جسمه السابقة، فلم يكن بدينا كرجل بدون تمرين، ولا نحيفاً هزيل الجسم بسبب الصوم والصراع مع الشياطين، بل كان كما عهدوه قبل اعتزاله.

ثم أن نفسه أيضا كانت بلا لوم، فلم تكن منقبضة من أي حزن، ولا مطلقة العنان فى الملذات العالمية، ولم يستولي عليها الضحك أو الكآبة، لأنه لم يفزع لما رأى الجماهير المزدحمة، ولم تأخذه نشوة السرور والاغتباط لما حياه أشخاص كثيرون كهؤلاء، بل كان رابط الجأش كشخص يحكم عقله، كما كان فى حالة طبيعية، وبه شفى الرب أسقام الكثيرين الجسدية ممن كانوا حاضرين، وطهر آخرين من الأرواح الشريرة.

وأعطيت نعمة لأنطونيوس فى الكلام، حتى أنه عزى الكثيرين من الحزانى، ووحد بين المتخالفين، حاثا الجميع على تفضيل محبة المسيح عن كل ما فى العالم، وإذ كان يحثهم وينصحهم على أن يذكروا الخيرات العتيدة ورحمة الله من نحونا. “الذى لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين”[29]. أقنع الكثيرين لاعتناق حياة الوحدة، وهكذا حدث أخيراً أن أقيمت الصوامع حتى فى الجبال، وعمرت البرية بالرهبان الذين خرجوا عن شعبهم وسجلوا أنفسهم ضمن سكان السماء.

15. ولكنه لما اضطر إلى عبور ترعة أرسينا[30] ـ وكان الداعي إلى هذا افتقاد الاخوة ـ كانت الترعة مليئة بالتماسيح، وبمجرد الصلاة دخلها هو وكل من معه، وجازوا فى أمان.

وإذ عاد إلى صومعته عاد إلى نفس رياضاته النبيلة الباسلة وبأحاديثه المستمرة ألهب الغيرة فى الذين كانوا رهبانا فعلا، وبعث فى نفوس أغلب الباقين حب النسك، وسرعان ما تكاثرت الصوامع بجاذبية كلماته، وأرشدهم جميعاً كأب.

16. وفى أحد الأيام إذ خرج، لأن جميع الرهبان اجتمعوا إليه وطلبوا أن يسمعوا كلماته، وخاطبهم باللغة المصرية قائلاً: “إن الأسفار المقدسة كافية للتعليم[31] ولكنه جميل تشجيع الواحد الآخر فى الإيمان وإنهاضه بالكلام لذلك أطلب كبنين أن تحملوا ما تعرفونه إلى أبيكم، وأنا كأخيكم الأكبر أشارككم معرفتي وما علمني إياه الاختبار، ليكن الهدف العام للجميع بصفة خاصة أن لا تتراجعوا بعد أن بدأتم، أو تخور عزائمكم فى الضيق. ولا تقولوا قد عشنا طويلا فى النسك بل بالحرى لنزدد غيرة كأننا كل يوم مبتدئين، لأن كل حياة الإنسان قصيرة جداً إذا قيست بالدهور القادمة، ثم أن كل زماننا ليس شيئا إن قيس بالحياة الأبدية. وفى العالم كل شيء يباع بثمنه، والإنسان يبادل السلعة بنظيرها، أما وعد الحياة الأبدية فيشترى بأمر زهيد جدا لأنه مكتوب “أيام حياتنا فيها سبعون سنة وان كانت مع القوة فثمانون سنة وما زاد على هذه فهو عناء وحزن”[32] لذلك فحينما نعيش ثمانين سنة كاملة أو حتى مائة فى النسك فإننا لا نملك[33] مائة فقط بل نملك إلى الأبد بدلا من مائة سنة. ورغم أننا جاهدنا على الأرض فإننا لا ننال ميراثنا على الأرض بل ننال المواعيد فى السماء. وإذا ما خلعنا الجسد الفاسد نسترده غير فاسد.

17. لذلك يا أبنائى يجب أن لا نكل، أو نحسب الزمن طويلا، أو أننا نعمل أمرا عظيماً، “لأن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا”[34]. كذلك يجب أن لا نظن ونحن ننظر إلي العالم أننا قد تركنا شيئا ذا أهمية كبيرة، لأن كل الأرض تافهة جدا إذا قيست بكل السماء. وحتى لو كنا أسيادا على كل الأرض وتركناها كلها فإنها لا تقاس بالمرة بملكوت السماء. لأنه كما أن الإنسان إن احتقر درهماً من النحاس لكي يربح مائة درهم من ذهب. هكذا لو كان سيداً لكل الأرض وتركها فان ما يتركه زهيد وينال مائة ضعف. إن كانت كل الأرض لا توازى السماوات فى قيمتها فإن من يترك أفدنة قليلة كأنه لم يترك شيئا. وحتى إن كان قد ترك بيتاً أو ذهباً وفيراً وجب ألا يفتخر أو يكتئب.

والأكثر من هذا يجب أن ندرك بأننا حتى أن لم نتركها من أجل الفضيلة فإننا فيما بعد حينما نموت سوف نتركها وراءنا ـ فى غالب الأحيان ـ لمن لا نحب كما يقول الجامعة[35]. إذاً فلماذا لا نتركها من أجل الفضيلة لكي نرث ملكوتا ؟

لهذا يجب أن لا تتملك على واحد رغبة الامتلاك، لأنه أي ربح نجنيه من الحصول على تلك الأشياء التي لا نستطيع أخذها معنا ؟ ولماذا لا نحصل بالحرى على تلك التي نستطيع أخذها معنا. الحكمة، والتعقل، والعدل، والاعتدال، والشجاعة، والفهم، والمحبة، والرحمة على الفقراء، والإيمان بالمسيح، والتحرر من الغضب، وكرم الضيافة ؟ إن امتلكنا هذه وجدناها من تلقاء ذاتها تعد لنا ترحيبا هناك فى أرض الودعاء.

18. وهكذا على المرء أن يقنع نفسه من أمثال هذه الأمور بأن لا يستخف بها[36] سيما إذا عرف أنه هو نفسه خادم الرب، ويجب أن يخدم سيده. وكما أن الخادم لا يتجاسر على القول : لن أعمل عملا اليوم لأنني عملت بالأمس، ولن أعمل عملاً فى المستقبل نظراً لما عملته فى الماضى، ولكنه كما هو مكتوب يظهر كل يوم نفس الاستعداد لإرضاء سيده وتجنب الخطر، هكذا يجب علينا كل يوم أن نلبث ثابتين فى نسكنا، عالمين بأننا إن تغافلنا يوما واحدا لا يغفر لنا الرب من أجل الماضي، بل يغضب علينا من أجل تغافلنا، كما سمعنا أيضا فى حزقيال[37]. وكما أضاع يهوذا تعبه السابق بسبب ليلة واحدة.

19. لذلك يا أبنائي وجب أن نتمسك بنسكنا وأن لا نتغافل. لأن الله عامل معنا فيه، كما هو مكتوب “كل الذين يختارون الخير يعمل الله معهم للخير”[38]. ولكن لكي نتجنب حالة التراخي والإهمال يحسن بنا أن نتذكر كلمة الرسول “أموت كل يوم”[39]. لأننا نحن أيضا إن كنا نعيش كأننا نمات كل يوم فإننا لا نخطئي. ومعنى هذا أننا عندما نستيقظ كل يوم يجب أن نذكر بأننا قد لا نبقى حتى المساء، وأيضاً عندما نعتزم الرقاد يجب أن نذكر بأننا قد لا نقوم. لأن حياتنا غير مؤكدة بطبيعة الحال، والعناية الإلهية تهبها لنا كل يوم. إن رتبنا حياتنا اليومية على هذا المنوال فلن نسقط فى الخطية، أو نشتهي أي شئ، أو نحقد على أحد، أو نكدس أي كنز على الأرض، بل ـ كأننا نتوقع الموت كل يوم ـ نكون بلا ثروة، ونغفر كل شئ لكل الناس، ولن تكون لنا على الإطلاق شهوة للنساء، أو لأية لذة قذرة أخرى. بل نتحول عنها كأنها قد عبرت وولت، ونجاهد دواماً متطلعين بصفة مستمرة إلى يوم الدينونة، لأن الخوف من العذاب يخلينا من الشهوات ويدعم النفس أن كانت على وشك السقوط.

20. وإذ قد بدأنا السير فى طريق الفضيلة فعلاً، وسرنا فيه، وجب أن نزداد جهاداً للحصول على تلك الأمور التي أمامنا، ويجب أن لا يلتفت أي امرئ إلى الأمور التي خلفه كامرأة لوط، سيما وقد قال الرب “ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله”[40] وهذا الالتفات إلى الوراء ليس إلا الشعور بالندم والتفكير فى العالم مرة أخرى. لكى لا تخافوا من أن تسمعوا عن الفضيلة، ولا يدهشكم اسمها، فهي ليست بعيدة عنا ولا هي خارجة عنا، بل هي فى داخلنا. وهى ميسورة لو أننا أردنا. لكي يحصل اليونانيون على المعرفة فانهم يعيشون فى الخارج ويعبرون البحار، أما نحن فلا داعي لكي نرتحل عن أوطاننا من أجل ملكوت السماء، أو نعبر البحار من أجل الفضيلة. لأن الرب سبق أن قال “ملكوت الله داخلكم”[41].

وطالما كانت الفضيلة فينا وتنشأ منا. لذلك فإنها لا تتطلب منا سوى الإرادة لأنه إذا أدت النفس وظيفتها الروحية فى حالة طبيعية نشأت الفضيلة. وهى تكون فى حالة طبيعية إذا لبثت كما أتت إلى الوجود، وحينما أتت إلى الوجود كانت جميلة ومتزايدة فى النبل. لأجل هذا قال يشوع بن نون للشعب فى نصحه “اجعلوا قلوبكم مستقيمة نحو الرب إله إسرائيل”[42] وقال يوحنا “اجعلوا سبلكم مستقيمة”[43]. لأن تقويم النفس يتضمن جعل ناحيتها الروحية فى حالتها الطبيعية كما خلقت. ولكنها من الناحية الأخرى إن انحرفت وتباعدت عن حالتها الطبيعية فهذا ما يدعى رذيلة النفس.

وهكذا ترى أن المسألة ليست عسيرة فأننا إن لبثنا كما خلقنا صرنا فى حالة الفضيلة. أما إذا فكرنا فى الأمور السالفة حسبنا أشراراً. ولذلك لو كان هذا الأمر لابد من الحصول عليه من الخارج لكان عسيراً حقاً. أما إذا كان فينا فلنحفظ أنفسنا من الأفكار الدنسة. وكما أننا قبلنا النفس وديعة فلنحفظها للرب لكي يدرك أن عمله هو بعينه كما خلقه.

21. ولنجاهد لكي لا يمتلك علينا الغضب. أو تغلبنا الشهوة. لأنه مكتوب “إن غضب الإنسان لا يصنع بر الله .  ثم الشهوة إذا  حبلت تلد خطيه والخطية إذا كملت تنتج موتا”[44]

وإذ نعيش هكذا فلنأخذ كل حذرنا ، وكما هو مكتوب ” لنحفظ  قلوبنا  بكل  حرص[45]“، لأن لنا أعداء مروعين في غاية الدهاء ـ الأرواح الشريرة ـ ومصارعتنا معها كما قال الرسول “ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاه العالم علي هذه الظلمة  مع أجناد الشر الروحية في السماوات”[46]. وما أكثر عددها في الهواء  المحيط بنا [47] وهي ليست بعيدة عنا. ويمكن ذكر الكثيرعن طبيعتها والفوارق التي بينها. علي أن وصفاً كهذا يترك لغيرنا ممن هم أقدر منا. أما في هذا الوقت فمن المحتم والضروري لنا أن نعرف فقط حيلها  ضدنا.

22. لذلك يجب أولاً أن نعرف هذا. أن الشياطين لم تخلق بالحالة  التي نعنيها عندما  ندعوها  بذلك الاسم. لأن الله لم يخلق شيئاً شريراً. بل حتى هي خلقت صالحة. ولكنها إذ سقطت من الحكمة السماوية  فإنها  منذ ذلك الوقت تعبث في الأرض فساداً. فهي أضلت اليونانيين (الأمم) بحبائلها المختلفة. ثم أنها بسبب  حسدها لنا نحن المسيحيين تحرك كل الأشياء بحسب أهوائها. تصدنا عن دخول  السماوات، لكي لا نصعد إلى المكان الذي منه سقطت. وهكذا تدعو الحاجة إلى كثرة الصلاة  والنسك، حتى إذا ما  حصل المرء ـ بالروح القدس ـ علي موهبة تمييز الأرواح كانت له القدرة علي معرفة مميزاتها ليدرك أيها أقل شراً وأيها أكثر،  وما هي  طبيعة جهاد كل منها… وكيف يمكن دحر وطرح الفاسد منها خارجا. لأن خبثها وحيلها كثيرة. ولقد عرف الرسول المغبوط وأتباعه أمثال هذه الأمور حينما قال “لأننا لا نجهل حيله” [48]. أما نحن فمما قاسيناه علي أيديها من التجارب وجب أن نصلح من شأن بعضنا البعض. لهذا فإنني  أتحدث كما إلى نبي عن أمور لديَّ البرهان عليها باختبارات عملية .

23. ولذلك  إن رأت الشياطين كل المسيحيين، سيما الرهبان. مجدين بابتهاج، ومتقدمين، فإنها أولاً تهجم بالتجربة. وتضع الصعاب، أي الأفكار الشريرة، لعرقلة طريقنا. ولكن لا مبرر لنا للخوف من أغراءاتها،  لأن هجومها يرتد خائبا في الحال بالصلاة والصوم والإيمان بالرب.

وحتى أن ارتد خائبا فإنها لا تسكت، بل ترجع ثانية  بمكر وخبث ودهاء. فهي إن  عجزت عن خداع القلب باللذات الدنسة صراحة اقتربت في صور مختفية مختلفة، ومن  ثم حاولت أن تبعث الرعب والفزع،  مغيرة أشكالها، ومتخذة  صور النساء. والوحوش البرية،  والزحافات، والأجساد الضخمة، وفرق الجنود. ولكن حتى إذا ظهرت بهذه المظاهر لكم فإنكم يجب أن لا  تخافوا مظاهرها الخداعة، لأنها ليست شيئا، ولا بد أن تختفي في الحال، سيما إن كان المرء قد سبق فحصن نفسه بالإيمان وعلامة  الصليب[49]. ومع ذلك فهي وقحة ولا تستحي  قط، لأنها إن غلبت علي أمرها هكذا هجمت بكيفية أخري، وادعت التنبؤ بالمستقبل. وأظهرت نفسها بأنها طويلة جداً بحيث تصل إلي السقف. وعريضة جداً وذلك لكي تخدع خلسة بهذه المظاهر من لم ينخدع بحجمها وإن وجدت بهذا أيضا أن النفس محصنة  بالإيمان وبثبات العزيمة أحضرت زعيمها لمساعدتها.

24. ثم قال أنها كثيراً ما ظهرت كما كشف الرب إبليس لأيوب قائلاً “عيناه كهدب الصبح. من فمه تخرج مصابيح مشتعلة، شرار نار يتطاير منه. من منخريه يخرج دخان آتون متأجج مع جمر نار. نفسه يشعل جمراً. ولهيب يخرج من فمه”[50]. وعندما يظهر رئيس  الشياطين علي هذا المثال. فإن المحتال الكثير الدهاء ينفث الرعب بالتكلم بعظائم، كما استذنبه الرب قائلاً لأيوب “يحسب الحديد كالتبن والنحاس كالخشب النخر، يحسب البحر كقدر عطارة، وعمق الهاوية كأسير، والهاوية كطريق مغطي”[51]. وكما قال علي لسان  النبي “قال العدو أتبع أدرك”[52]. وبلسان آخر أيضا “أقبض علي كل الأرض في يدي كعش وأجمعها كما يجمع بيض مهجور”[53].

وهكذا نري بالإيجاز افتخارها وادعاءاتها لعلها تخدع الأتقياء. ومع  ذلك يجب علينا نحن  المؤمنين أن لا نخاف مظاهره، أو نأبه بكلماته. لأنه كذاب، ولا يتكلم كلمة واحدة صادقة علي الإطلاق. ورغم تعظمه في تبجحه بكلمات هذه كثرتها، فلا شك في أن المخلص قد اصطاده بشص كتنين[54]. وأوثقت خياشيمه  بخزامه كهارب. وثقبت شفتاه بمثقب [55]. لقد أوثقه الرب كعصفور لكي نهزأ به. وقد وضعت معه الشياطين رفقاؤه كحيات وعقارب نطأها نحن المسيحيين تحت الأقدام. والدليل علي هذا أننا نعيش الآن  بالرغم منه. لأن ذلك الذي هدد بأن  يجفف  البحر، ويقبض علي  العالم، هوذا الآن لا  يستطيع أن يثبت أمام نسكنا، ولا أمامي إذا أتكلم ضده. إذا فلا نأبه بكلماته لأنه كذاب. ولا نخش رؤياه. إنها في حد ذاتها مخادعة. لأن ما  يظهر فيها ليس نوراً حقيقياً. بل هي بالأحرى مقدمة وعينه للنار المعدة للشياطين التي  تحاول إزعاج البشر بتلك اللهب التي سوف تحترق فيها. لا شك  في أنها تظهر، ولكنها في لحظة تختفي ثانية، دون أن تؤذي أحدا من  المؤمنين ، بل تحمل معها شبه تلك النار  التي سوف  تنالها هي نفسها. لأجل هذه  الأسباب لا يليق بنا أن  نخشاها. فكل محاولاتها فاشلة بنعمة  المسيح.

25. ثم هي أيضا مخادعة، وهي مستعدة لتغيير نفسها في كل الأشكال، واتخاذ كل المظاهر. وهي أيضاً ـ دون أن تظهرـ كثيراً ما قلدت نغمات القيثارة والصوت، ورددت كلمات الكتاب المقدس. وفي بعض الأحيان أيضاً عندما نقرأ تردد في الحال مرارا كثيرة ما قرئ  كأنه صدي الصوت. وهي توقظنا من نومنا للصلاة. وتفعل هذا بصفة مستمرة، بحيث لا تدعنا  ننام علي الإطلاق.

وفي وقت آخر تتخذ شكل الرهبان. وتتظاهر بكلام  القديسين، لعلها بأشباههم  تخدع فرائسها وتجرها حيث أرادت. ولكن يجب أن لا يؤبه  لها. حتى إذا أيقظتنا للصلاة، وحتى إذا  أوعزت إلينا أن لا نأكل  علي الإطلاق، أو وبختنا وأخجلتنا من أجل تلك الأمور التي أباحتها لنا في الماضي، لأنها لا تفعل هذا من أجل التقوى والحق، بل لكي تحمل البسطاء علي اليأس، ولكي تقول أن النسك لا فائدة منه. وتجعل الناس يكرهون  حياة الوحدة كأمر شاق وحمل ثقيل، وتعطل أولئك  الذين يسلكون  فيها بالرغم  منها.

26. لهذا أعلن النبي المرسل من الله بأنها تعسة قائلاً: “ويل لمن يسقي صاحبة هلاكا طينيا”[56]. لأن مثل هذه التصرفات والحيل تدمر الطريق المؤدي إلى الفضيلة.

والرب نفسه، حتى مع  تَكَلمُ الشياطين بالحق، لأنها بحق  قالت “أنت ابن الله”[57]. كمم أفواهها، ولم يدعها  تتكلم، لئلا تزرع شرها مع الحق، ولكي يعودنا علي أن لا نبالي بها علي الإطلاق، حتى إذا بدا أنها تتكلم بالحق، لأنه لا يليق بنا، بعد  الحصول علي الأسفار المقدسة والحرية من المخلص، أن تتعلم من إبليس الذي لم يحفظ رتبته، بل انتقل من فكر إلى آخر. ولذلك، فمع استعماله لغة الكتاب المقدس، منعه الرب قائلاً: “وللشرير قال الله مالك تحدث بفرائضي وتحمل عهدي علي فمك”[58]. لأن الشياطين تفعل كل شئ، فهي تهذر وتربك، وتتنكر، وتحيرـ ذلك لتخدع البسطاء ـ وهي تطن وتضحك بجنون، وتصفر. وإذا لم يلتفت إليها تبكي في الحال وتنوح كأنها قد غلبت.

27. لذلك أبكم الرب ـ كإله ـ أفواه الشياطين. وخليق بنا إذ قد تعلمنا من القديسين، أن نفعل مثلهم، ونقتدي بشجاعتهم. لأنهم عندما كانوا يرون هذه  الأمور كانوا يقولون: “عندما قام عليَّ الخاطئ صمتُ صمتاً،  وتواضعت وسكت عن الكلمات الطيبة”[59] وأيضا “ولكني كنت كأصم لا أسمع وكأبكم لا يفتح فمه وصرت كإنسان لا يسمع “[60].

لذلك  ينبغي أن لا نصغي للشياطين لأنها غريبة عنا ولا ننتبه إليها، حتى ولو أيقظتنا للصلاة، وتكلمت عن الصوم، بل لنتمسك بالأحرى بتصميمنا علي النسك، ولا ننخدع  بمن يفعلون كل شئ بخداع حتى ولو هددونا بالموت فهم ضعفاء. ولا يقدرون أن يفعلوا شيئا سوي التهديد.

28. سبق أن تحدثنا عن هذه الأمور بالإيجاز. أما الآن فيجب أن لا أتردد عن التحدث عنها بتوسع. لأن تذكيركم مصدر أمان لكم.

منذ افتقد الرب الأرض سقط العدو، وضعفت قوته. وإذ عجز عن أن يفعل شيئا فإنه  كطاغية لم يحتمل سقوطه بهدوء بل هدد، رغم أن تهديده لم يكن سوى كلمات. وليذكر كل واحد منكم هذا، فيستطيع أن يحتقر الشياطين.

وإن كانت قد غلبت أمامنا نحن الأجساد فيمكنها أن تقول “عندما يختبئ الناس فإننا لا نقدر أن نجدهم، ولكن عندما نجدهم  فإننا نقدر أن نؤذيهم” . ونحن  أيضاً إذ نختبئ فإننا نقدر أن ننجو منها، عندما نغلق الأبواب في وجوهها. لكن إن لم تكن هذه هي طبيعتها. بل تقدر أن تدخل، وأن كانت الأبواب مغلقة. وتتحول في كل الجو، هي وقائدها إبليس، وتميل إلى الشر والإيذاء، وكما  قال المخلص” إبليس قتال الناس من البدء وأبو الرذيلة “[61]

وطالما كنا نحن ـ رغم هذا ـ لا نزال أحياء. ونقضي حياتنا في مقاومته بقوة أشد، فواضح من هذا أنها ضعيفة وعديمة القوة، لأن المكان لا يعرقل مؤامراتها، ثم هي لا تنظر إلينا كأصدقاء حتى تعفو عنا، ولا هي محبة للخير حتى تصلح  من شأنها، بل بالعكس هي شريرة، ولا تسعي وراء شئ سوي جرح من يحبون الفضيلة ويتقون الله. نظراً لأنها لا قوة لها لتعمل أي شئ، فأنها  لا تفعل شيئا سوى التهديد. ولو كانت قادرة لما ترددت،  بل لفعلت الشر في الحال (فهذه هي كل رغبتها)، سيما ضدنا.

هوذا نحن الآن  مجتمعون معاً، ونتكلم ضدها، وهي تعلم  بأننا كلما تقدمنا ازدادت هي ضعفاً. فلو كانت لديها  قوة لما سمحت لأي واحد منا نحن المسيحيين بأن يعيش. لأن  التقوى  مكرهة الخاطئ [62]، ولأنها لا تقدر أن تفعل شيئاً فإنها تجرح نفسها أكثر فأكثر، إذ أنها لا تقدر أن  تتمم شيئا من تهديداتها.

وبعد هذا  لنذكر بأننا يجب أن لا نخافها وأنها لو كانت لها القدرة لما جاءت في جموع، ولا ظهرت بمظاهر مختلفة، ولا حاولت أن تخدع بتغيير منظرها، بل لكان يكفي أن يأتي شيطان واحد فقط ويتمم ما يقدر أن يفعله، وما يريد أن يفعله. سيما وأن كل من توافرت لديه القوة لا يقتل  متخفياً، ولا يبعث الخوف بالجلبة والضوضاء، بل يستخدم  كل سلطانه في الحال كما يريد. أما الشياطين، فلأنها لا قدرة لها، فهي كالممثلين علي المسرح تغير شكلها، وتخيف الأطفال بأشباحها المخيفة، وأشكالها المختلفة، الأمر الذي يبعث بالأحرى علي احتقارها لأنها تظهر ضعفها. فعلي الأقل أن ملاك الرب الحقيقي الذي أرسل ضد الآشوريين لم يكن في حاجة لكي يحدث  جلبة أو ضوضاء، أو  يغير منظره الخارجي، أو يبعث أصواتاً أو قعقعة، بل استخدم قوته  في هدوء،  وللحال  قتل مائة وخمسة وثمانين ألفا [63]، أما أمثال تلك الشياطين عديمة القوة فإنها تحاول أن  تخيف علي الأقل بأشكالها المصطنعة.

29. ولكن إن قال واحد، وهو يذكر قصة  أيوب، لماذا إذا خرج إبليس وتمم كل شئ ضده،  وجرده من كل ممتلكاته، وقتل بنيه، وضربه بقروح ردية؟  فليذكر مثل هذا من الناحية الأخرى، إن إبليس لم يكن هو القوي، بل الله الذي سلم إليه أيوب لامتحانه. يقينا أنه لم تكن لديه قوه  لعمل  شئ، ولكنه طلب، وإذ أجيب إلى طلبه فعل ما فعل. ومن هذا أيضاً يزداد افتضاح  العدو، إذ أنه لم  يقدر علي شخص بار واحد رغم أنه أراد إيذاءه. لأنه لو كانت له قوة لما طلب الأذن. أما وقد  طلب، لا مرة واحدة بل مرة أخري أيضاً، فقد بين ضعفه وافتقاره إلي القوة. وليس عجيبا  أن  عجز عن أن يفعل شيئا ضد أيوب. إن كان الهلاك لم يحل بمواشيه أو لم يكن الله قد سمح بذلك وليس لدية سلطان علي الخنازير، لأنه مكتوب في الإنجيل أن الشياطين طلبت من  الرب قائلة: إئذن لنا أن ندخل الخنازير[64]. وإن لم يكن  لها سلطان حتى علي الخنازير فبالأولي جداً ليس لها سلطان  علي البشر [65]، الذين قد  تكونوا علي صورة الله.

30. إذا وجب أن نخاف الله فقط ونحتقر الشياطين، ولا نرهبها. بل كلما  ازدادت هي في عمل هذه وجب أن نضاعف نحن نسكنا ضدها، لأن  الحياة  الصالحة والإيمان بالله سلاح قوي. وعلي أي حال فهي تخشى الصوم، والسهر، والصلوات، والوداعة، والهدوء، واحتقار المال، والمجد الباطل، والتواضع، ومحبة المساكين، والصدقة، وتحرر النساك من الغضب، وفوق الكل تقواهم نحو المسيح، لذلك فهي  تفعل  كل شئ لكي لا يكون لا يكون هناك من يطأها إذ تعرف النعمة المعطاة للمؤمنين ضدها بواسطة المخلص حينما قال” ها أنا  أعطيكم  سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو[66].

31. وإن ادعت التنبؤ بالمستقبل وجب أن لا  يلتفت إليها أحد، لأنها كثيرا ما تعلن مقدما أن الأخوة قادمون بعد بضعة أيام، فيأتون فعلاً، وعلي أي حال فإن الشياطين لا تفعل هذا لاهتمامها بالسامعين، بل لكي تنال ثقتهم. وبعد  ذلك  قد تهلكهم  إذ تستحوذ عليهم في سلطتها. لهذا  يجب ألا نصغي إليها، بل بالأحرى أن نخرسها إذ تتكلم، فنحن لسنا في حاجة إليها. لأنه أي عجب إن كانت، هي  بأجسادها الأكثر دهاء من  أجساد البشر[67]، عندما تري الأخوة يبدءون أسفارهم تسبقهم بسرعة وتعلن مجيئهم؟ وكما أن راكب الحصان عندما يسبق  السائر علي قدميه  يعلن مقدما قدوم هذا الأخير، كذلك لا داعي للتعجب منها في هذا الصدد، لأنها لا تعرف شيئا لم يوجد بعد  في الوجود، ولكن الله وحده هو الذي يعرف كل الأشياء  قبل  ولادتها[68]، أما هذه فإنها تركض أولا وتعلن ما ترى. فلقد أعلنت خدمتنا للكثيرين، أعلنت أننا مجتمعون معا نتناقش  في  بعض الإجراءات ضدها، وذلك قبل أن يستطيع أي واحد منا أن يذهب وينبئ بهذه الأمور. والواقع أن هذا ما  يستطيع فعله أي فتى رشيق الحركة عندما يسبق شخصا أقل حركة. ولكن ما أقصده هو هذا، أنه إن بدا شخص  يسير من طيبة أو من أية منطقة أخري، فإنها  لا تستطيع  معرفة إتجاه مسيره قبل أن  يبدأ المسير. ولكنها عندما تراه سائراً تسرع وتعلن  اقتراب وصوله قبل  أن يصل. وهكذا يحدث أن يصل المسافرون بعد ذلك ببضعة  أيام. ولكن كثيرا ما  يحدث أن السائرين يرجعون فيتضح كذب الشياطين.

32. وهكذا أيضا فيما يختص بمياه النهر. فالشياطين في بعض الأحيان تعطي  بيانات  خاطئة. فإذا رأت أمطارا كثيرة في مناطق أثيوبيا، وهي تعرف أنها هي سبب فيضان النهر، فإنها تسرع وتعلن الأمر قبل وصول المياه إلى مصر. وهذا ما يستطيع البشر أن يخبروا به لو كانت  لهم نفس قوة الركض كالشياطين.  وكما أن جاسوس داود إذ صعد إلى مكان مرتفع رأي الرجل يقترب أسرع مما رآه من كان ماكثا في مكان منخفض، وهكذا الراكض  نفسه يعلن، قبل وصول غيره، لا الأشياء التي  لم تحدث، بل تلك التي حدثت  وكانت في الطريق مع حامليها، هكذا تسعي هذه لكي تعلن للآخرين ما هو حادث، وذلك  لكي تخدعهم. إما إن رتبت العناية الإلهية شيئاً مخالفا للمياه،  وللسائرين في  الطريق، لأن العناية الإلهية تقدر أن  تفعل هذا، فإن الشياطين   تخدع، والذين أصغوا إليها ينخدعون.

33. هكذا انتشرت في الأيام الماضية أقوال اليونانيين(الوثنيين)، وبهذا أضلتهم الشياطين، علي أن ضلالاتهم قد وضعت عند حد بمجيء الرب.[69] الذي أباد الشياطين ومكايدها لأنها لا تعرف شيئا من تلقاء ذاتها، بل كلصوص لنقل ما يتصادف أن  تعرفه من الآخرين، وهي لا تتنبأ بالحوادث بل بالأحرى تتكهن.  ولذلك فإن تكلمت بالصدق أحيانا وجب أن لا  يعجب أحد بها من أجل هذا. فالأطباء المحنكون أيضا إن رأوا مرضاً واحداً في أشخاص مختلفين كثيراً ما ينبئون به، ويكشفون عنه بخبرتهم، وربابنة السفر والفلاحون، لتعودهم  علي الجو، يستطيعون  بنظرة واحدة  بسيطة أن  يخبروا عن حالة الجو، ويتنبئوا أن كان الجو سيصير عاصفاً أم  لطيفاً. ولن يستطيع أحد القول أنهم يفعلون هذا بوحي أو الهام، إنما من الاختبار والتمرين. وهكذا إن فعلت  الشياطين بعض الأحيان نفس الأمر بالتكهن فلا يتعجب أحد من  الأمر أو يصغي  إليها. لأنه أية منفعة للسامعين أن يعرفوا منها قبل الوقت ما سوف يحدث؟ أو أية أهمية أن  تعرف مثل هذه  الأمور حتى ولو كانت المعرفة  صحيحة؟ فهي ليست ثمرة للفضيلة، ولا هي أية علامة علي الصلاح. لأنه لن يدان أحدنا بسبب ما لا يعرفه، ولا يقال علي أحد أنه مبارك لأن لديه علماً ومعرفة. بل يدعو كل واحد للدينونة في هذه  الناحية، هل حفظ الإيمان واتبع  الوصايا بحق ؟

34. لذلك لا  حاجة لكي نعطي هذه  الأمور أهمية كبيرة، أو نمارس حياة النسك والتعب من أجلها، بل أن نرضي الله بحياتنا الطيبة. ويجب ألا نصلي لكي نعرف المستقبل. أو نطلب هذه  المعرفة كأجر لنسكنا، بل لتكن صلاتنا لكي  يكون  الرب معيناً لنا للنصرة علي إبليس، وإن حدث أننا رغبنا مرة في معرفة المستقبل فلنكن طاهري الذهن، لأنني أعتقد أنه إن تطهرت النفس تماما، وكانت في حالتها الطبيعية، استطاعت أن تري أكثر وأبعد من الشياطين[70] لنقاوة نظرها، لأن لها الرب الذي يعلنه لها، كنفس إليشع التي رأت ما فعله جيحزي[71] وأبصرت جيوش الملائكة واقفة بجوارها.[72]

35. لذلك فإن أتتكم ليلاً وأرادت أن تخبركم عن المستقبل، أو قالت نحن ملائكة، فلا تصغوا إليها، لأنها كاذبة، حتى إن مدحت نسككم ودعتكم مباركين فلا تصغوا إليها، ولا تكن لكم  معاملات معها، بل  بالأحرى ارشموا ذواتكم وبيوتكم، وصلوا، تجدوها قد  انقشعت. لأنها  في غاية الجبن. وتخشي جداً علامة صليب الرب، طالما كان الرب قد جردها فيه حقاً، وأشهرها جهارا[73]. أما إذا ثبتت بلا خجل، مغيرة هيئتها وتشكلها فلا تخشوها، ولا تنزعجوا، ولا تستمعوا إليها كأنها أرواح  صالحة، لأنه بمساعدة الله يسهل تمييز وجود الخير أو الشر فرؤية القديسين لا تقترن بالذهول أو الحيرة “لأنهم لا يخاصمون ولا  يصيحون ولا يسمع أحد في الشوارع صوتهم.[74] إذ تأتي بهدوء ورقة، حتى أنه للحال يحل في النفس  الفرح والبهجة والشجاعة،  لأن معهم  الرب الذي هو فرحنا، ومعهم قوة الله الآب.  فتبقى أفكار النفس غير مضطربة أو منزعجة، ونرى أنفس هؤلاء  الذين يظهرون كأنها قد استنارت بأشعة نورانية، لأنها تتملكها  محبة  الإلهيات ومحبة الأشياء العتيدة، وتبتغي أن  تنضم معهم  بكليتها إن استطاعت أن ترتحل معهم. ولكن إن كان البعض ـ وهم بشر ـ يخافون رؤية  الصالحين، فإن الذين يظهرون ينزعون الخوف في الحال، كما فعل  جبرائيل في حالة زكريا.[75] وكما فعل الملاك  الذي  ظهر للنسوة عند القبر  المقدس[76]، وكما فعل ذلك الذي قال للرعاة في الإنجيل “لا تخافوا”[77]، فخوفهم لم  ينشأ عن الجبن، بل عن الإحساس بحضور كائنات أعلي. إذاً فهذه هي طبيعة رؤية القديسين.

36. أما غارات الأرواح الشريرة ومظاهراتها فتكون مقترنة بالاضطراب، والطنين، وأصوات وصراخ، كالشغب الذي يحدث مع الصبية الأردياء، أو اللصوص. ومن  ذلك ينشأ الخوف في القلب، والاضطراب في الفكر، والكآبة وكراهية الذين يعيشون حياة النسك، وعدم المبالاة، والحزن، وتذكر الأهل، والخوف من  الموت، وأخيراً الرغبة في الشرور، وعدم احترام الفضيلة، والعادات غير المستقرة.

ولذلك فكما رأيتم أي شئ وخفتم، فإن انتزع خوفكم في الحال، وحل محله الفرح الذي لا يعبر عنه، والغبطة والشجاعة والقوة المتجددة، وهدوء الفكر، وكل ما ذكرته سابقا، والجرأة والمحبة من نحو الله، فتشجعوا وصلوا. لأن الفرح واستقرار النفس وطمأنينتها تدل علي قداسة ذاك الذي حل. هكذا فرح إبراهيم عندما رأي الرب[78]، ويوحنا أيضاً فرح وارتكض بابتهاج عند سماع صوت مريم[79]حاملة الله.

أما إذا حدث عند  ظهور أية شخصية اضطراب، وصخب ومظاهر عالمية، وتهديد بالموت،  وما سبق أن ذكرته فاعلموا أن هذا هو هجوم من  الأرواح الشريرة .

37. ولتكن هذه أيضاً علامة لكم، إذا ما بقيت النفس منزعجة كان هذا معناه وجود الأعداء. لأن الشياطين لا تنزع الخوف المنبعث من حلولها، كما فعل رئيس الملائكة العظيم جبرائيل مع مريم وزكريا، وكما فعل الذى ظهر للنسوة عند القبر، ولكنها بالأحرى كلما رأت الناس خائفين ازدادت في طغيانها لكي يزدادوا خوفاً، وفي آخر هجوم تهزأ بهم قائلة خروا واسجدوا. وهكذا أضلت اليونانيين (الوثنيين)، وهكذا اعترفوا بها آلهة، زوراً وبهتانا. أما الرب فلم يسمح لنا بأن يضللنا إبليس. لأنه كلما صوب نحوه ضلالات كهذه انتهره قائلا: “أذهب عنى يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد”[80]. إذن فلنحتقر المضل أكثر فأكثر، لأن ما قاله الرب، تممه من أجلنا، حتى إذا ما سمعت الشياطين منا كلمات مماثلة هربت من قبل الرب الذى انتهرها بتلك الكلمات

38. ثم لا يليق الافتخار بإخراج الشياطين، ولا الانتفاخ بشفاء الأمراض. كذا لا يليق بأن من يخرج الشياطين يمجد وحده، أو يحقر من شأن من لا يخرجها، بل ليعرف المرء نسك كل واحد، وإما أن يقتدي به، أو ينافسه، أو يقومه، لأن عمل الآيات ليس من اختصاصنا بل هو عمل المخلص، ولذا قال لتلاميذه “لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا أن أسماءكم كتبت في السموات”[81]. لأن كتابة أسمائنا في السموات دليل علي حياتنا الفاضلة، أما إخراج الشياطين فهو هبه من المخلص الذى وهبها. أما أولئك الذين افتخروا بالآيات لا بالفضيلة، وقالوا “يارب باسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة”.[82] فقد أجابهم “الحق أقول لكم أنى لا أعرفكم” لأن الرب لا يعرف طريق الآثمة. لكن يجب علينا أن نصلى دواماً، كما قلت آنفاً، لكي نحصل علي موهبة تمييز الأرواح، حتى كما هو مكتوب لا نصدق كل روح.[83]

39. كنت أود أن لا أطيل الكلام، ولا أقول شيئا من عندي، اكتفاء بما ذكرت، ولكن لئلا تظنوا أنني أتكلم كيفما أتفق، أو خبط عشواء، أو تتوهموا أنني أسرد هذه التفاصيل بدون خبرة، أو بعيدا عن الصواب، لأجل هذا ـ ولو صرت كغبى ـ فإن الرب الذي يسمع يعرف نقاوة ضميري، ويعرف أنني لست من أجل نفسي، بل من أجل محبتكم لي، وإجابة لطلبكم، أخبركم مرة أخرى ما رأيته من تصرفات الأرواح الشريرة. فكثيراً ما دعتني مغبوطا فانتهرتها باسم الرب. كثيرا ما تنبأت بارتفاع النهر فأجبتها “مالكم به”. ومرة أتتني مهددة، وأحاطت بي كجنود مسلحين تمام التسلح. ومرة أخرى ملأت البيت خيلاً وحيوانات برية وزحافات، فترنمت قائلاً “هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل. أما نحن فباسم الرب إلهنا نفتخر”.[84] ولدى الصلاة هربت بقوة الرب. ومرة أتت في الظلام حاملة ما يشبه النور، وقالت “أتينا لنقدم إليك نورا يا أنطونيوس”. أما أنا فأغمضت عيني وصليت، وللحال انطفأ نور الأشرار. وبعد ذلك ببضعة شهور أتت كأنها ترنم المزامير، وتتحدث بكلمات الكتاب “أما أنا كأصم لم أسمع”[85]. ومرة هزت الصومعة بزلزلة. ولكنني ظللت أصلى بقلب لا يتزعزع. بعد هذا جاءت ثانية مزمجرة تصفر وترقص. ولكن إذ صليت واضطجعت، مرنماً المزامير لنفسي، بدأت للحال تبكي وتنتحب، كأن قوتها قد خانتها. على أنني أعطيت المجد للرب الذى أذلها، ودحر قوتها وجرأتها.

40. ومرة جاءني شيطان طويل القامة، وظهر في عظمة وفخامة، وتجاسر أن يقول “أنا قوة الله، وأنا العناية الإلهية. كل ما أردته أعطيتك”. أما أنا فنفخت فيه، ونطقت باسم المسيح، وشرعت بأن أضربه، وبدا كأنني ضربته، وللحال اختفى هو وكل شياطينه أمام اسم المسيح، رغم ضخامة حجمه. ومرة أخرى إذ كنت صائماً أتى مليئا بالمكر في شكل راهب، ومعه شبه أرغفة، ونصحني قائلاً: “كل وكف عن أتعابك الكثيرة. أنت أيضا إنسان. وقد تعرض نفسك للمرض”. أما أنا فإذ أدركت حيلته قمت للصلاة. ولكنه لم يحتمل ذلك لأنه انصرف وخرج من الباب كدخان. وكم من مرة أظهر في الصحراء ما يشبه الذهب، حتى ألمسه مجرد لمس وأتطلع إليه. ولكنني رتلت المزامير ضده فاختفى. وكثيراً أرادت ضربي بجلدات، فكنت أكرر مرارا وتكرارا “لن يفصلني شئ عن محبه المسيح”.[86] وللحال بدأت تضرب بعضها بعضا، ولم أكن أنا الذى صددتها وحطمت قوتها، بل الرب الذى قال “رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء”.[87] أما أنا يا أبنائي، فإذا تذكرت كلمات الرسول حولت هذه تشبيها إلى نفسي[88] ، لكي تتعلموا أن لا تخوروا في النسك، أو تخشوا إبليس أو أضاليل الشياطين .

41. وإن كنت قد صرت غبيا بسرد هذه الأمور فاقبلوا هذا أيضا كمساعد علي نجاتكم وعدم خوفكم، وصدقوني لأنني لست أكذب. “مرة قرع واحد باب صومعتي، وإذ خرجت وجدت شخصا طويلا كبير الحجم. ولما سألته “من أنت”  قال ” أنا الشيطان “. ولما قلت ” لماذا جئت هنا”، أجاب “لماذا يلومني الرهبان وسائر المسيحيين بغير حق؟ لماذا يلعنوني كل ساعة؟” عندئذ أجبت ” ولماذا تضايقهم؟” فقال ” لست أنا الذى أضايقهم، بل هم الذين يضايقون أنفسهم. لأنني قد أصبحت ضعيفاً. ألم يقرءوا “تلاشت سيوف العدو وأنت أخربت المدن؟”[89] ليس لي فيما بعد مكان، أو سلاح، أو مدينة، فالمسيحيون منتشرون في كل مكان، وأخيراً امتلأت حتى الصحراء بالرهبان. فليحترسوا لأنفسهم، ولا يلعنوني بغير حق”. عندئذ عجبت من نعمة الرب وقلت ” أنت كذاب أبداً، ولا تقل الصدق قط. وهذا قلته بالصدق أخيراً رغم إرادتك. لأن مجيء المسيح جعلك ضعيفاً، وهو قد طرحك إلى أسفل وجردك”. أما هو فاختفى إذ سمع اسم المخلص، ولم يستطع أن يحتمل لهيبه.

42. وإن كان إبليس قد اعترف بنفسه أن قوته قد تلاشت، وجب أن نحتقره وشياطينه احتقارا تاماً. وطالما كان العدو وكلابه ليست لها سوى حيل من هذا القبيل فإننا إذا عرفنا ضعفها نستطيع احتقارها. إذن وجب أن لا تخور عزائمنا، أو يتسرب الجبن إلى قلوبنا، أو نصور المخاوف لأنفسنا قائلين: “أنا خائف لئلا يأتي شيطان ويحطمني، لئلا يرفعني إلى أعلى ويطرحني إلى أسفل، أو لئلا يثور علي بغتة فيزعجني”. مثل هذه الأفكار يجب أن لا تخطر ببالنا قط، ويجب أن لا نحزن كأننا قد هلكنا. بل بالأحرى لنتشجع ونفرح دواما، واثقين أننا آمنون. ولنذكر في نفوسنا أن معنا الرب الذى طارد الأرواح الشريرة، وحطم قوتها. ولنذكر ولنضع في قلوبنا أنه طالما  كان الرب معنا فإن أعدائنا لن يستطيعوا إيذائنا، لأنها عندما تأتى، تقترب إلينا في صورة تتفق مع الحالة التي تجدنا فيها[90] وتجعل خداعها موافقا للحالة الفكرية التي تخامرنا. فهي إن وجدتنا في حالة جبن واضطراب اقتحمت المكان في الحال كلصوص إذ تجده بغير حراسة، وتفعل ما تجدنا مفكرين فيه، بل وأكثر أيضا. لأنها إن وجدتنا خائري القلب وجبناء ازدادت في إرهابنا بعنف بتضليلاتها وتهديداتها، وبهذه تتعذب النفس التعسة في ذلك الحين .

أما أن وجدتنا فرحين في الرب متأملين في سعادة المستقبل ، مفكرين في الرب. مسلمين كل شئ إلي يده، وواثقين أنه لا قوة لأى روح شرير ضد المسيحي، ولا أي سلطان علي أي واحد قطعاً، فإنها إن رأت النفس متحصنة بهذه الأفكار اندحرت ورجعت إلى الوراء. هكذا عندما رأي العدو أيوب محصنا بها ( بهذه الأفكار) تنحي عنه. ولكنه إذ رأي يهوذا غير متيقظ أخذه أسيراً.

وهكذا أن أردنا احتقار العدو فلنتأمل دواماً في الإلهيات، ولتفرح النفس في الرجاء، وعندئذ ترى فخاخ الشيطان كالدخان، والأرواح الشريرة نفسها تهرب بدلا من أن تتابعنا. لأنها كما قلت شديدة الخوف جداً. تتوقع دائما النار المعدة لها.

43. ولعدم الخوف منها تمسكوا بهذه العلامة الأكيدة: كلما ظهر لكم شبح فلا يستولي عليكم الخوف، بل مهما كانت شخصيته اسألوا أولا بجسارة: من أنت ، ومن أين أتيت؟ فإن كانت الرؤيا للقديسين طمأنوكم وبدلوا خوفكم إلى فرح. إنما أن كانت الرؤيا من إبليس ضعف في الحال إذ يري ثباتكم العقلي. لأن مجرد السؤال: من أين أتيت؟ برهان علي عدم اكتراثكم. بسؤال كهذا عرف ابن نون من هو معينه[91] كما أن دانيال لم يترك العدو دون توجيه السؤال إليه.[92]

44. وبينما كان أنطونيوس يتحدث بهذا الكلام كان الجميع مغتبطين. وفي البعض زادت محبة الفضيلة، والآخرون طرحوا جانبا الإهمال والتراخي، وتلاشي الغرور من غيرهم. واقتنع الجميع بضرورة احتقار هجمات الشرير، وعجبوا بالنعمة المعطاة لأنطونيوس من قبل الرب لتمييز الأرواح. وهكذا صارت صوامعهم في الجبال كهياكل مقدسة، مكتظة بجماعات الأتقياء الذين كانوا يرنمون المزامير، ويحبون القراءة، ويصومون ويصلون ويفرحون برجاء الأمور العتيدة، ويكدون في إعطاء الصدقة. ويحتفظون بمحبة بعضهم البعض. والوفاق مع بعضهم البعض. وحقا لقد كان ممكنا رؤية أرض منعزلة مليئة بالتقوى والعدل، لأن لم يكن فيها فاعل شر، أو مظلوم، أو تعيير جابي الضرائب بل بدلاً من ذلك جماهير من النساك، والهدف الوحيد للجميع هو الفضيلة، وهكذا كان كل من يري هذه الصوامع ثانية، ويري مثل هذا النظام الجميل بين الرهبان، كان يرفع صوته ويقول: “ما أحسن مساكنك يا يعقوب خيامك بإسرائيل، كأودية ظليلة، كجنات علي نهر، كخيام أقامها الرب، كارزات علي مياه”.[93]

45. وعلي أي حال فإن أنطونيوس كعادته عاد منفردا إلى صومعته، وازداد في نسكه، وتنهد يومياً كلما فكر في مساكن السماء، إذ ركز فيها رغبته، متأملا في قصر حياة الإنسان. وكان يأكل وينام، ويتمم سائر المطالب الجسدية الضرورية بخجل عندما كان يفكر في مواهب النفس الروحية. وعندما كان يشرع في الأكل مع نساك آخرين ويتذكر الطعام الروحي. كثيرا ما كان يعتذر ويتنحي عنهم. معتبرا أن رؤية الآخرين له وهو يأكل أمر يدعو إلى الخجل. وعلي أي حال اعتاد أن يأكل الكفاف عندما كان يأكل منفردا، أو مع الأخوة. وكان يغطيه الخجل في هذه المناسبات. ومع ذلك كان ينطق بجسارة بكلمات التشجيع. وقد اعتاد أن يقول أنه خليق بالمرء أن يعطي كل وقته لروحه لا لجسده، ومع ذلك فليعط وقتا قصيرا للجسد لقضاء حاجياته الضرورية، ولكنه يجب عليه تكريس كل الباقي للنفس وطلب منفعتها، لكي لا تنجذب بملذات الجسد، بل بالعكس يخضع الجسد للنفس. لأن هذا ما قاله المخلص “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون، ولا تطلبوا ما تأكلون أو ما تشربون. ولا تتشككوا، لأن هذه كلها تطلبها أمم العالم، ولكن أباكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها، لكن اطلبوا أولا ملكوته، وهذه كلها تزاد لكم”.[94]

46. بعد هذا حل بالكنيسة الاضطهاد [95] الذى حدث أيام مكسميانوس، وعندما اقتيد الشهداء إلى الإسكندرية تبعهم أيضا أنطونيوس تاركا صومعته، وقائلا: لنذهب نحن أيضا حتى إذا دعينا كافحنا أو نظرنا المكافحين. وقد تاق إلى الاستشهاد، ولكنه إذ لم يشأ تسليم نفسه، خدم المعترفين في المناجم وفي السجون. وكان في شدة الغيرة في ساحة القضاء، لكي يبعث الهمة في نفوس الذين دعوا للجهاد. أما الذين دعوا للاستشهاد، فكان يقبلهم ويسندهم في طريقهم حتى يكملوا. وإذ رأى القاضي عدم خوف أنطونيوس ورفاقه، وغيرتهم في هذا الصدد، أمر بأن لا يظهر راهب في ساحة القضاء، أو يبقي في المدينة علي الإطلاق، ولذلك وجد جميع الباقين أنه من الأصلح أن يختبئوا في ذلك اليوم. أما أنطونيوس فلم يبال كثيرا بذلك الأمر، حتى أنه غسل ثوبه، ووقف طول اليوم التالي في مكان مرتفع أمامهم، وظهر في أحسن حالة أمام الوالي. ولذلك فعندما تعجب من هذا جميع الباقين، ورآه الوالي ومر به بحلته الملكية، وقف غير خائف مظهراً استعدادنا نحن المسيحيين، لأنه كما قدمت كان يصلي أن يكون هو نفسه شهيداً، ولذلك يبدو عليه كأنه حزين لعدم حمل شهادته. لكن الرب حفظه لأجل فائدتنا وفائدة الآخرين. لكي يكون معلما للكثيرين عن النسك الذي تعلمه من الكتب المقدسة، لأن الكثيرين رغبوا أن يقتدوا بطرقة بمجرد رؤيتهم لطريقة حياته، هكذا خدم المعترفين ثانية. وتعب في خدمته كأنه شريكهم في الأسر.

47. وعندما توقف الاضطهاد أخيراً، وحمل المغبوط الأسقف بطرس[96] شهادته، انصرف أنطونيوس، واعتزل ثانية في صومعته، وبقي هنالك. وكان كل يوم شهيدا أمام ضميره مناضلاً في جهاد الإيمان وصار نسكه أشد صرامة لأنه كان دائم الصوم، يلبس لباسا من الشعر في الداخل، أما اللباس الخارجي فكان من الجلد، وهكذا احتفظ به إلى نهاية حياته، وكان لا يستحم بالماء ليتخلص من القذارة، ولا يغسل قدميه، بل كان لا يطيق أن يضعها في الماء، إلا عند الضرورة. ولم يره أحد غير لابس ثيابه، ولا رؤى جسده عرياناً إلا بعد موته، عند دفنه.

48. لذلك فعندما اعتزل أنطونيوس، اعتزم أن يحدد وقتا لا يخرج بعده ولا يقبل أي شخص أتاه مرتنيان ـ ضابط حربي ـ وأقلق راحته، لأنه كانت له ابنة معذبة بروح شرير. وإذ ظل يقرع الباب طويلا، وطلب منه أن يخرج ويصلى إلى الله من أجل ابنته، ولم يحتمل أنطونيوس أن يفتح، بل تطلع إليه من أعلي وقال: “يا إنسان لماذا تناديني ؟ أنا أيضا إنسان مثلك. ولكن إذا آمنت بالمسيح الذي أعبده فاذهب وحسب إيمانك لله فيكون لك”. وللحال انصرف مؤمنا وداعيا المسيح، فخرج إبليس من ابنته. وأشياء كثيرة أخري عن طريق أنطونيوس عملها الرب الذي قال “اسألوا تعطوا”[97]، لأن الكثيرين من المتألمين كانوا ينامون خارج صومعته عندما كان يرفض فتح بابه، فشفوا بإيمانهم وصلواتهم الصادقة.

49.  وعندما رأى نفسه محاطا بالكثيرين، ولم يحتمل الانسحاب عنهم وفقاً لما قرره، وإذ امتلأ قلبه خوفا بسبب الآيات التي عملها به الرب، لئلا ينتفخ، أو يفتكر فيه أحد فوق ما ينبغي أن يفتكر، فكر في الأمر مليا، واعتزم الذهاب إلى طيبة العليا بين من لا يعرفونه. وإذ تقبل بضعة أرغفة من الأخوة جلس علي شاطئ النهر، لعله يجد سفينة يستقلها، حتى إذا اعتلاها صعد في النهر معهم. وبينما هو يفكر في هذه الأمور جاءه الصوت من فوق “يا أنطونيوس إلى أين تذهب ولماذا ؟” أما هو فلم يضطرب قط، ولكنه إذ تعود أن يسمع مثل هذا النداء كثيراً، أصغي وأجاب قائلا: “طالما كانت الجموع لا تسمح لي بالهدوء، فإنني  أريد الذهاب إلى طيبة العليا بسبب المعطلات الكثيرة التي ألقاها هنا، سيما لأنهم يطلبون مني أمورا فوق طاقتي”. ولكن الصوت قال له: “حتى إن ذهبت إلي طيبة، أو حتى إن نزلت إلى بوكوليا[98]، كما يخطر ببالك، فسوف تحتمل أتعاباً أوفر، بل تتضاعف أتعابك الحالية. أما إن كنت ترغب حقيقة في الهدوء فارتحل الآن إلى الصحراء الداخلية”. وعندما قال أنطونيوس: “ومن يريني الطريق لأنني لا أعرفه”، أشار الصوت في الحال إلى بعض العرب كانوا مزمعين الذهاب في ذلك الطريق، وهكذا تقدم أنطونيوس واقترب منهم، وسألهم ليذهب في الصحراء، فقبلوه بكل ارتياح، كأنهم قد تلقوا الأمر من العناية الإلهية. وإذ ارتحل معهم ثلاثة أيام وثلاث ليال وصل إلى جبل عال جداً ، وعند سفح الجبل كان يجرى ينبوع صاف، مياهه عذبة وباردة جدا، وفي الخارج كان هنالك سهل وقليل من أشجار النخيل غير معتني بها.

50. عندئذ أحب أنطونيوس المكان الذي كان مسوقاً إليه من الله، إذ كان هو الموقع الذى تكلم معه على شاطئ النهر. وهكذا إذ تقبل أولاً بضعة أرغفة من زملائه المسافرين معه لبث في الجبل منفردا ولم يكن معه أحد. وإذ أعتبره بيتاً له لبث فيه بقية الأيام التالية. أما العرب فإذ رأوا غيرة أنطونيوس تعمدوا اتخاذ ذلك الطريق فيما بعد في أسفارهم، وأحضروا إليه أرغفة بكل فرح، وفي نفس الوقت كان يأخذ من النخيل قليلاً من البلح، ولما عرف الأخوة المكان بعد هذا حرصوا علي إمداده بالطعام كأبناء يعنون بأبيهم. وعندما رأي أنطونيوس أن الخبز سبب تعبا ومشقة للبعض منهم، فإنه لكي يوفر هذا علي الرهبان اعتزم أن يطلب من بعض الذين أتوا أن يحضروا إليه جاروفا وفأسا وقليلا من الحنطة، ولما أحضرت هذه بحث الأرض المحيطة بالجبل، وبالعثور علي بقعة صغيرة من الأرض الصالحة فلحها، ولما وجد كمية مياه وافرة للري زرعها. فعل هذا عاماً بعد عام، وحصل علي خبرة بهذه الكيفية، وفرح لأنه لم يعد عبئا علي أحد، ولأنه حفظ نفسه غير ثقيل علي أحد. وبعد ذلك  ، إذ رأي أن الناس أتته، زرع قليلا من الخضراوات، حتى يجد كل من أتاه قليلا من الغذاء بعد عناء السفر الشاق.

علي أن وحوش البرية في بداية الأمر كانت تأتي بسبب الماء، وكثيرا ما أتلفت بذارةه وزراعته. أما هو فأمسك بأحدها برقة ولطف وقال لجميعها: “لماذا تسيئين إلي وأنا لم أسئ إلى أى واحد منك؟ انصرفي، وباسم الرب لا تقربي هذا المكان”. ومن ذلك الوقت فصاعدا لم تقترب من المكان، كأنها قد خشيت أمره .

51. هكذا كان وحده في الجبل الداخلي، يصرف وقته في الصلاة والنسك. أما الأخوة الذين كانوا يخدمونه فطلبوا منه أن يأتوا كل شهر، ويحضروا له زيوتا وبقولا وزيتا، لأنه كان وقتئذ قد تقدم في السن. حينئذ صرف حياته هناك، واحتمل مصارعة “ليس مع لحم ودم”[99] كما هو مكتوب، بل مع الشياطين المقاومة كما علمنا ممن زاروه. لأنهم هناك سمعوا شغبا وأصواتاً كثيرة وقرقعة كأنها قرقعة أسلحة. وفي الليل رأوا الجبل مليئا بالوحوش البرية، كما رأوا أنطونيوس أيضا مجاهدا كأنه يجاهد ضد كائنات منظورة، ومصليا ضدها، وكل الذين أتوه شجعهم وإذ كان يجثو كان يجاهد ويصلى إلى الرب. ويقينا أنه كان أمراً عجيبا أن شخصاً في برية كهذه لم يخش لا الشياطين التي هاجمته، ولا وحشية الوحوش ذوات الأربع والزحافات، لأنها كانت كثيرة جدا، ولكنه حقا كما هو مكتوب “توكل علي الرب مثل جبل صهيون “[100] بإيمان لا يتزعزع ولا يضطرب، حتى أن الشياطين هربت منه بالأحرى، ووحوش البرية سألته كما هو مكتوب [101]

52. كان إبليس، كما يقول داود في المزامير[102]، يراقب أنطونيوس ويحرق عليه أسنانه. أما أنطونيوس فكان متعزيا بالمخلص، واستمر سالماً من حيله ومكائده المختلفة. كان يسهر بالليل فيرسل عليه إبليس وحوشا برية. وخرجت كل ضبع تلك البرية تقريبا من مغايرها وأحاطت به، وكان في وسطها، يهدده كل واحد بالعض. وإذ رأى أن هذه حيلة من العدو قال لها كلها: “إن كان لك سلطان علي فإنني مستعد أن تلتهمينى، أما إن كنت قد أرسلت على من قبل الشياطين فلا تمكثي بل انصرفي لأنني عبد المسيح”. وعندما قال أنطونيوس هذه هربت أمام تلك الكلمة، كما لو أنها ضربت بالسياط.

53. وبعد ذلك بأيام قليلة، كان يعمل، لأنه حرص علي أن يؤدى عملاً شاقاً. فوقف  واحد بالباب وشد الجديلة التي كان يعملها، لأنه اعتاد أن يصنع سلالاً يعطيها لمن أتوا بدلاً مما أحضروا إليه. وإذ انتصب رأى وحشا له شكل إنسان حتى فخديه، ولكن له سيقان وأقدام كالحمار. أما أنطونيوس فإنه إنما رسم ذاته وقال “أنا عبد للمسيح، فإن كنت قد أرسلت إلى فها أنذا هنا”. ولكن الوحش هرب هو وأرواحه الشريرة، حتى أنه بسبب سرعته سقط علي الأرض ومات. وكان موت الوحش إيذانا بسقوط الشياطين، لأنها بذلت كل جهد، بكل الطرق، لإبعاد أنطونيوس عن البرية فلم تقدر.

54. وبعد مدة سأله الرهبان مرة لينزل ويزورهم في مساكنهم، فارتحل مع من أتوا إليه، وحملوا الأرغفة والماء علي جمل، لأن كل تلك البرية مقفرة، وليس فيها علي الإطلاق مياه صالحة للشرب سوى في ذلك الجبل الذي منه كانوا يستقون المياه، والذي كانت توجد فيه صومعة أنطونيوس. ولذلك فعندما أعوزتهم المياه في الطريق، واشتدت الحرارة، وصاروا جميعا في خطر شديد. لأنهم لما تجولوا في التخم المجاورة، ولم يجدوا ماء، ولم يستطيعوا أن، يتقدموا خطوة واحدة، بل استلقوا علي الأرض، وصرفوا الجمل بعد أن استولوا عليهم اليأس. أما الشيخ فإذ رأي أنهم جميعا قد أحدق بهم الخطر، أنَّ بحزن عميق، وابتعد عنهم مسافة قليلة، وجثا علي ركبتيه، وبسط يديه وصلي. وللحال جعل الرب المياه تتفجر حيث وقف يصلي، وهكذا شرب الجميع وانتعشوا. ملئوا أوعيتهم وبحثوا عن الجمل حتى وجدوه، لأن الحبل تصادف أن علق بحجر فربط به الجمل، فساقوه وسقوه ووضعوا الأوعية علي ظهره، وأتموا رحلتهم بسلام. وعندما أتي إلى الصوامع الخارجية حياه الجميع ناظرين إليه كأب، وهو أيضا كأنه آت إليهم بالإمداد من الجبل، حياهم بكلماته، وأعطاهم نصيبا من المساعدة. وصار فرح في الجبل ثانية، وغيرة نحو التقدم، وتعزية بالإيمان المتبادل. وقد فرح أنطونيوس أيضا عندما رأي غيرة الرهبان، لا سيما عندما وجد أن أخته قد شاخت في العذارية وأنها هي أيضا كانت تقود غيرها من العذارى.

55. وهكذا  بعد بضعه أيام ذهب ثانية إلى الجبل. ومن ذلك الوقت لجأ إليه الكثيرون. وتجاسر غيرهم من المرضي علي الدخول. وكل الرهبان الذين أتوا إليه كان يقدم إليهم بصفة مستمرة هذه الوصية: “آمنوا بالرب وأحبوه، احفظوا أنفسكم من الأفكار القذرة والملذات الجسدية، وكما هو مكتوب في سفر الأمثال “لا تخدعوا بامتلاء البطن”[103] واظبوا علي الصلاة ، تجنبوا الغرور والخيلاء، رنموا المزامير عند النوم وعند الاستيقاظ، احفظوا في قلوبكم وصايا الكتاب المقدس، اذكروا أعمال القديسين، حتى إذا ما تذكرت نفوسكم الوصايا بقيت علي وفاق مع غيرة القديسين”.

   ثم نصحهم بصفة خاصة بالتأمل دواما في كلمة الرسول “لا تغرب الشمس علي غيظكم”[104] وكان يعتقد أن هذه تشمل كل الخطايا بصفة عامة. فليس المقصود الغيظ فقط، بل يجب أن لا تغرب الشمس علي أية خطية من خطايانا لأنه حسن، بل ضروري، أن لا تغيب الشمس علي أي شر بنا نهارا ولا القمر علي آية خطية ليلاً، أو حتى علي أي فكر شرير. ولكي تستمر هذه الحالة فينا يحسن أن نسمع الرسول ونحفظ كلماته لأنه يقول “جربوا أنفسكم. امتحنوا أنفسكم”.[105]

إذا يجب علي كل واحد أن يستخلص من نفسه كل يوم قصة أعماله في الليل والنهار. وإن كان قد أخطأ فليكف عن الخطية، وإن لم يكن قد أخطأ وجب أن لا يفتخر. بل ليتمسك بالصالح دون إهمال، وأن لا يدين أخوته، أو يبرر نفسه “حتى يأتي الرب الذي يكشف الخفيات”[106] كما يقول المغبوط بولس الرسول. لأننا كثيرا ما فعلنا بغير قصد الأشياء التي لا نعرفها، ولكن الرب يري كل شئ. لذلك إذ نسلم الدينونة له لنعطف بعضنا علي بعض. لنحمل أثقال بعضنا بعضاً[107] ولكن لنمتحن أنفسنا ونسرع لملء ما نقص فينا.

واتقاء للخطية لنراع الآتي: لينتبه كل منا. ولنسجل أعمالنا والدوافع المحركة لنفوسنا، كأننا سوف نقصها بعضا علي بعض. واثقين من أننا إن كنا سوف نخجل تماماً من أن تعرف الخطية، وجب أن نكف عنها، وألا نبقي علي أية أفكار شريرة في عقولنا. من ذا الذي لا يكذب بعد ارتكاب الخطية بسبب الرغبة في تجنب معرفة الآخرين لها؟ وكما أننا إذا روقبنا من بعضنا البعض فإننا لا نرتكب الخطية المادية، هكذا إذا سجلنا أفكارنا، كأننا سنخبر بها بعضنا بعضاً. حفظنا أنفسنا بسهولة من الأفكار الرديئة بسبب الخجل لئلا تعرف.

لذلك فليكن ما نكتبه عن أنفسنا بمثابة أعين زملائنا النساك، حتى إذا ما خجلنا من أن نكتب خطايانا كأننا قد أمسكنا بها فلن نفكر قط فيما لا يليق. فإن رتبنا أنفسنا بهذه الكيفية أمكننا إخضاع الجسد لارضاء الرب. كما أمكننا أن ندوس علي حيل العدو.

56. كانت هذه هي النصيحة التي أعطاها لمن آتو إليه. وكان يعطف علي المتألمين، ويصلي معهم، وكثيرا ما استجاب له الرب عن الكثيرين. ومع ذلك فإنه لم يفتخر إذا استجيب له، ولا تذمر إذا لم يستجيب. ولكنه كان يشكر الرب دواماً، ويطلب من المتألم أن يصبر ويعرف أن الشفاء لا يتوقف عليه ولا علي أي إنسان، بل هو من الرب وحده، الذي يفعل الخير وقتما يريد ولمن يريد. ولذلك كان المتألمون يقبلون كلمات الشيخ كأنها شفاء، عالمين بأنهم يجب أن لا يكونوا كسيري النفس، بل بالأحرى طوال الأناة. أما الذين كانوا يشفون فقد أمروا بتقديم الشكر لله وحده لا لأنطونيوس

57. كان هناك يشخص يدعي فرونتو وكان ضابطا في البلاط الملكي، ومصابا بمرض شديد، لأنه كان يعض لسانه، وكان يخشي أن يؤذي عينيه. وإذ أتي إلى الجبل طلب من أنطونيوس أن يصلي لأجله أما أنطونيوس فقال له: “انصرف فتشفي” ولكن أنطونيوس إذ كان منحصرا بالروح، وظل داخل صومعته بضعة أيام، قال له: “إن مكثت هنا لا يمكن أن تشفي، فاذهب وعندما تدخل أرض مصر سوف ترى الآية تمت فيك”. فآمن وانصرف. وحالما أبصرت عيناه أرض مصر شفيت أمراضه، وأصبح صحيحا وفقاً لكلمة أنطونيوس التي أعلنها له المخلص في الصلاة.

58. وكانت هناك أيضا فتاه من “بوسيربس طرابلس[108]” مصابة بمرض شنيع جداً. لأنه كان يسيل من عينيها وأنفها وأذنيها سائل إذا سقط علي الأرض تحول في الحال إلى دود وكانت مشلولة، ومصابة بمرض في عينيها. وإذ سمع والداها، وكانا يؤمنان بالرب الذي شفي المرأة نازفة الدم[109]، أن رهبانا ذاهبين إلى أنطونيوس، طلبا منهم أن يسمحوا لهما بالسفر معهم برفقة ابنتهما. ولما سمحوا لهما بقي الوالدان وابنتهما خارج الجبل مع بفنوتيوس المعترف والراهب. أما الرهبان، فدخلوا إلى أنطونيوس، ولما أرادوا إخباره بحالة الفتاة سبقهم وقص عليهم أنباء آلام الفتاة، وكيف أنها سافرت معهم. وعندما طلبوا السماح لها بالدخول رفض أنطونيوس قائلا: “أذهبوا، وأن لم تجدوها قد ماتت فستجدونها شفيت. لأن إتمام ذلك ليس لي حتى تأتى إلى أنا الإنسان الشقي، لكن شفاءها هو عمل المخلص الذي يظهر رأفته في كل مكان لكل الذين يدعونه. لذلك أصغى الرب إليها عندما صلت، وقد أعلنت إلىَّ رحمته أنه سوف يشفي الفتاة حيث هي الآن”. وعندئذ تملكهم العجب. ولما خرجوا وجدوا والديها فرحين، والفتاه قد شفيت.

59. وكان هناك أخوان قادمين إليه وأعوزتهما المياه في الطريق. فمات أحدهما، وكان الآخر علي وشك الموت، لأنه لم تكن له قوة علي استمرار المسير، بل رقد علي الأرض متوقعاً الموت. أما أنطونيوس فإذ كان جالسا علي الجبل، دعا راهبين تصادف وجودهما وأمرهما قائلا: “خذا جرة ماء واركضا في الطريق إلى مصر. لأن أحد الرجلين الذين كانا قادمين قد مات فعلاً، وسيموت الآخر إن لم تسرعا إليه. لأن هذا قد أعلن إلي وأنا أصلي”. لذلك ذهب الراهبان، ووجدوا واحداً ميتا فدفناه. وأنعشا الآخر بالماء، وأخذاه إلى الشيخ، لأن الطريق كان سفر يوم.

أما أن سأل أحد لماذا لم يتكلم قبل أن يموت الآخر، وجب أن لا يوجه سؤال كهذا. لأن قصاص الموت لم يكن من أنطونيوس، بل من الله الذي نقل الواحد وأعلن حالة الآخر. أما وجه العجب هنا فهو فقط في حالة أنطونيوس، لأنه إذ كان جالسا علي الجبل كان قلبه متيقظا وأعلن له الرب أشياء بعيدة .

60. ومرة أخري كان جالساً علي الجبل، وتطلع إلى فوق. فرأى في الهواء شخصا محمولاً إلى أعلي، وكان هنالك فرح عظيم بين الذين قابلوه. ولما تعجب وحسب أمثال هؤلاء مباركين صلي لكي يعرف حقيقة الأمر. ولحال جاءه الصوت: “هذه نفس أمون راهب نيترا[110] أما أمون هذا فكان قد لبث في النسك إلى سن الشيخوخة. وكانت المسافة من نيترا إلى الجبل الذي كان فيه أنطونيوس نحو سفر ثلاثة عشر يوماً. ولما رأى رفقاء أنطونيوس أنه منذهل سألوه ليعرفوا السبب، فعلموا أن أمون مات تواً. وكان اسمه ذائع الصيت لأنه طالما مكث هناك، وجرت علي يديه آيات كثيرة، هذه إحداهما: أراد آمون مرة أن يعبر نهر ليكوس (وكان وقتئذ في فيضانه)  فطلب من زميله تيودوروس أن يبقي بعيداً، لكي لا يرى أحدهما الآخر عاريا عند اجتياز الماء عائمين. ولما انصرف تيودورس خجل أمون حتى من أن يري نفسه عارياً. وبينما كان متفكراً وهو ملئ بالخجل حمل إلى الشاطئ الآخر بغتة. أما تيودورس إذ كان رجلا صالحاً. فأقترب ورأى أن آمون عبر أولاً دون أن تسقط منه نقطة ماء. فسأله كيف عبر ولما رأي أن آمون لا يريد أن يخبره أمسك بقدميه. وصرح بأنه لن يطلقه قبل أن يعرف منه الحقيقة. ولما رأى أمون تصميم تيودوروس في إلحاحه، طلب منه أن لا يخبر أحداً قبل موته، وأخبره بأنه قد حمل، ووضع علي الشاطئ الآخر. وأنه لم يضع حتى قدميه علي الماء، وأن ذلك لم يكن ممكنا لأى إنسان بل للرب وحده، ومن يسمح هو لهم، كما فعل مع الرسول العظيم بطرس[111]، وعلي ذلك لم يخبر تيودورس بهذا إلا بعد موت أمون .

   أما الرهبان الذين تحدث إليهم أنطونيوس عن موت آمون فقد سجلوا يوم الوفاة، ولما وصل الأخوة من نيترا بعد ذلك بثلاثين يوما سألوهم فعلموا أن آمون رقد في اليوم والساعة التي رأي فيها الشيخ نفسه محمولا إلى فوق. فتعجب هؤلاء وغيرهم من طهارة نفس أنطونيوس. وكيف أنه علم في الحال ما حدث علي مسافة سفر ثلاثة عشر يوما. ورأي النفس وهي صاعدة.

61. وأيضا إذ وجد الكونت أرخيلاوس في إحدى المرات في الجبل الخارجي طلب منه مجرد الصلاة من أجل بوليكراشيا من لاودكية، وهي فتاة شريفة مسيحية، وكانت تتألم آلاماً شديدة في معدتها وجنبها بسبب الإفراط في النسك، وكانت ضعيفة الجسد جداً لذلك صلي أنطونيوس. وسجل الكونت تاريخ تقديم الصلاة، ولما انصرف إلى لاودكية وجد الفتاه قد شفيت. وعندما سأل عن وقت شفائها من ضعفها قدم الورقة التي كتب عليها وقت الصلاة. وإذ قرأها تبين أنها شفيت في ذات الوقت فتعجب الجميع لما عرفوا أن الرب قد شفاها من آلامها في الوقت الذي كان أنطونيوس يصلي فيه ويتوسل إلى صلاح المخلص من أجلها.

62. أما عن الذين أتوا إليه فكثيرا ما كان يتنبأ عن سبب مجيئهم قبل وصولهم ببضعة أيام، أو بشهر في بعض الأحيان. فالبعض إنما جاءوا لمجرد رؤيته. وآخرون بسبب ما حل بهم من أمراض، وغيرهم لأنهم كانوا يتألمون من الأرواح الشريرة والجميع لم يحسبوا مشقه السفر تعباً أو خسارة ، لأن كل واحد عاد واثقا أنه نال فائدة. ولكن رغم أنهم قالوا مثل هذه الأقوال، ورأوا مثل هذه المناظر. فإنه اعتاد أن يطلب منهم بأن لا يتعجبوا منه من أجل هذا، بل بالأحرى يجب أن يتعجبوا من أن الرب منح لنا نحن البشر أن نعرفه علي قدر طاقتنا.

63. ومرة نزل إلى الصومعة الخارجية في مناسبة أخرى، وطلب منه أن يدخل سفينة مع الرهبان، فلاحظ هو وحدة رائحة كريهة جداً، أما الذين كانوا علي ظهر السفينة فقالوا أن الرائحة الكريهة منبعثة من السمك المملح في السفينة. فأجاب بأن الرائحة تختلف عن هذا. وبينما هو يتكلم صرخ شاب فيه روح شرير كان قد جاء واختبأ في السفينة. ولما وبخ الشيطان باسم الرب يسوع المسيح انصرف عنه، وشفى الشاب، وعرف الجميع أن الرائحة الكريهة منبعثة من الشيطان.

64. وجاء أيضا شخص ذو مركز رفيع به شيطان، وكان الشيطان مرعبا جدا. حتى أن المريض لم يعلم أنه ذاهب إلى أنطونيوس، وكان يأكل حتى البراز الخارج من جسده، والذين أحضروه طلبوا من أنطونيوس أن يصلي من أجله، فشفق القديس علي الشاب وصلي لأجله، وسهر معه الليل كله، ونحو الفجر هجم الشاب علي أنطونيوس فجأة ودفعه، ولما غضب الذين جاءوا معه قال أنطونيوس”لا تغضبوا علي الشاب، لأنه ليس هو الذي عمل هذا بل الشيطان الذي فيه. وإذ وبخ الشيطان وأمر أن يذهب إلى أماكن مقفرة تهيج هياجا جنونيا. وفعل هذا. فاشكروا الرب لأن هجومه هكذا علامة علي انصراف الروح الشرير”. ولما قال أنطونيوس هذا عاد إلى الشاب صحيحا في الحال، ورجع إليه عقله أخيرا، وعرف أين هو وحيا الشيخ وشكر الله .

65. وقد روى الكثيرون من الرهبان ـ باتحاد في الرأي ـ أن أموراً كثيرة مماثلة تمت علي يديه. علي أن هذه لا تبدو عجيبة كثيرة كمسائل أخري معينة. لأنه في إحدى المرات عندما كان مزمعا أن يأكل وقام ليصلي نحو الساعة التاسعة أدرك بأنه قد أختطف بالروح. والعجيب أنه وقف ورأي نفسه كأنه خارج جسده، وأنه اقتيد في الهواء بواسطة أشخاص معينين. وبعد ذلك وقفت في الهواء كائنات أخرى مرعبة. وأرادت أن تعرقل مسيره، ولكن لما قاومها مرشدوه سألت عما إذا كان هو ليس مدينا لها. وعندما أرادت أن تخلص الديون منذ ولادته أوقفهم مرشدو أنطونيوس قائلين: “لقد مسح الرب خطاياه منذ ولادته، ولكن يمكنكم أن تحاسبوه منذ أن صار راهبا وكرس نفسه لله”.

وبعد ذلك عندما اتهمته ولم تستطع إثبات أية تهمة عليه أصبح طريقه خالياً وأزيلت عنه كل العراقيل. وللحال رأي نفسه كأنه قد أتي إلى جسده، وأصبح أنطونيوس كما كان من قبل. وإذ نسي الأكل صار يئن ويصلي بقية النهار وطول الليل، لأنه دهش إذ رأي كيف أن مصارعتنا مع خصوم أشداء، وكيف أننا يجب أن نجتاز الهواء بجهود شاقة، ثم نذكر أن هذا هو ما قاله الرسول “حسب رئيس سلطان الهواء”[112] لأن العدو له فيه سلطان ليحارب ويحاول تعطيل الذين يجوزون فيه. ولذلك قدم النصيحة بكل قوة “احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير[113]. وذلك لكي يخزي المضاد إذ ليس له شئ رديء يقوله عنا [114] ونحن الذين تعلمنا هذا لنصغ إلى الرسول عندما يقول: “أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم، الله يعلم” [115] أما أنطونيوس فقد رأي أنه أتي إلى الهواء، وصار يجاهد حتى تحرر.

66. ثم أعطيت إليه أيضا هذه النعمة، وهى أنه عندما كان يجلس علي الجبل وحيداً. تحصل له حيرة في تأملاته، يعلن له هذا في الصلاة بواسطة العناية الإلهية، وتعلم الرجل السعيد من الله كما هو مكتوب.[116] وعندما كان يتناقش مرة مع بعض أشخاص أتوا إليه عن حالة النفس وعن طبيعة مركزها بعد هذه الحياة، ناداه واحد من فوق في الليلة التالية قائلا: “قم يا أنطونيوس وأفرح وأنظر” وإذ خرج (لأنه كان يعرف من ذا الذي يجب أن يطاع) تطلع إلى فوق فرأي واحداً واقفاً يصلي إلى السحاب، طويلا مرعبا، مزعجا، وآخرين صاعدين كأن لهم أجنحة. وبسط الشيخ يديه فصعد بعض الصاعدين بينما طار الباقون إلى فوق، وإذ خلا لهم الجو إلى السماء حملوا إلى فوق بلا عناء. عند ذلك صر المارد علي أسنانه، ولكنه شمت بأولئك الذين سقطوا. وللحال آتي الصوت إلى أنطونيوس: “أتفهم ما تري؟” فأنفتح ذهنه، وفهم أن هذا كان عبور النفوس وأن ذلك الكائن الطويل الذي وقف هو العدو الذي يحسد المؤمنين، وأن الذين أمسكهم وصدهم من العبور هم أتباعه، أما الذين عجز عن أن يمسكهم وهم يجتازون إلى فوق فهم الذين لم يخضعوا له.

وإذ رأي هذا، وكان يتذكره، كان يزداد جهادا كل يوم للتقدم إلى ما هو قدام. ثم أنه لم يكن يريد أن يتحدث عن هذه الرؤى. ولكنه عندما كان يصرف وقتا طويلا في الصلاة متعجبا ومتحررا، ويضغط عليه الذين معه بالأسئلة، كان يضطر إلى الكلام كأب لا يستطيع أن يخبئ شيئا عن أبنائه. وكان يعتقد أنه طالما كان ضميره خالصا فإن الشرح يقنعهم لكي يعرفوا أن النسك أثمر ثمار طيبة، وأن الرؤى كثيراً ما كانت عزاء عن أتعابهم.

67. يضاف إلى هذا أنه كان لين العريكة، متواضع الروح، لأنه مع وصوله إلى هذه الدرجة من السمو فقد حافظ علي قانون الكنيسة بكل تدقيق. وكان يميل إلى أن كل الأكليروس يجب أن يكرموا أكثر منه، وحتى إن جاءه شماس لطلب المساعدة كان يتناقش معه فيما ينفع، لأنه كثيرا ما سأل أسئلة، ورغب في أن يصغي لمن كانوا حاضرين. وأن قال أي واحد قولا نافعاً كان يعرف أنه قد استفاد.

وعلاوة علي هذا فقد كانت طلعته تنم عن نعمة عظيمة وعجيبة وهذه النعمة أعطيت إليه أيضا من المخلص، لأنه كان إذا ما وجد وسط جماعة كبيرة من الرهبان، وأراد أحد أن يراه ممن لم يعرفوه سابقا، كان في الحال إذا ما مر بينهم يسرع إلى أنطونيوس كأنه قد انجذب بطلعته

ومع أنه لم يتميز عن الباقين في الطول أو العرض إلا أنه تميز عنهم في رصانة الأخلاق وطهارة النفس، لأنه إذ خلت نفسه من كل شائبة صارت هيئته الخارجية هادئة وهكذا حصل من فرح نفسه علي طلعة بهجة. وكانت تتبين حالة روحة من حركات جسمه، كما هو مكتوب “عندما يكون القلب فرحا يكون الوجه مشرقاً، وحينما يكون حزينا يكون الوجه مكتئباً[117]

هكذا عرف يعقوب الأفكار التى في قلب لابان وقال لزوجتيه: “أنا أرى أن وجه أبيكما ليس نحوي كأمس وأول من أمس. وهكذا عرف صموئيل داود لأنه كانت له عينان فرحتان وأسنان بيضاء كاللبن[118] وهكذا كان يعرف الناس أنطونيوس، لأنه لم ينزعج قط إذ كانت نفسه في سلام، ولم يكن ذليل النفس أبداً إذ كان قلبه جزلا.

68. وكان عجيبا جدا في الإيمان والتقوى، لأنه لم يختلط قطعا بالمنشقين الميليتين[119]، إذ عرف شرهم وارتدادهم من البدء. ولا دخل في صداقة مع “المانيين “[120]، أو غيرهم من الهراطقة إلا إذا أراد أن يقدم لهم النصيحة لكي يرجعوا إلى التقوى. لأنه كان يعتقد ويؤكد أن الاختلاط بهؤلاء مضر، بل مدمر للنفس.

بنفس هذه الكيفية أيضا كره هرطقة الأريوسيين. وكان ينصح الجميع بأن لا يقتربوا منهم، ولا يعتنقوا عقيدتهم المنحرفة ومرة عندما جاءه بعض الأريوسيين وسألهم، وعرف فسادهم. طردهم من الجبل قائلا أن كلماتهم أشر من سم الأفاعي.

69. وفي إحدى المرات أيضا إذ أكد الأريوسيين كذبا أن آراء أنطونيوس تتفق مع آرائهم استاء منهم وغضب عليهم. وبعد ذلك استدعاه الأساقفة وكل الأخوة، فنزل من الجبل، ولدى دخوله الإسكندرية[121] شجب الأريوسيين قائلاً: إن هرطقتهم هي آخر الهرطقات، وممهدة للمسيح الكذاب. وعلم الشعب أن ابن الله ليس مخلوقا، ولا ظهر إلى الوجود من العدم، ولكنه هو الكلمة الأزلي، وحكمة الأب، ومساو له في الجوهر. ولذلك فمن الكفر أن يقال “أنه كان هناك وقت لم يكن موجودا”، لأن الكلمة كائن بالتساوى مع الآب دواما.

ولذلك فلا تكن لكم شركة قط مع الأريوسيين أشر الملحدين، لأنه لا شركة للنور مع الظلمة[122]، فأنتم مسيحيون صالحون، أما هم فعندما يقولون أن ابن الله الآب، كلمة الله مخلوق، فإنهم لا يخلفون عن الوثنيين، طالما كانوا يعبدون المخلوق دون الخالق[123]، بل ثقوا أن الخليقة نفسها غاضبة عليهم، لأنهم وضعوا الخالق رب الكل، الذى به وجدت كل الأشياء، في عداد تلك الأشياء التى خلقت.

70. لذلك فرح كل الشعب لما سمعوا أن الهراطقة المضادة للمسيحية قد شجبها شخص كهذا. وركض كل شعب المدينة ليروا أنطونيوس. وجاء إلى الكنيسة اليونانية ومن يدعون كهنتهم قائلين: “نطلب أن نرى رجل الله”. لأنهم هكذا لقبوه جميعاً، لأنه في ذلك المكان أيضا طهر الرب الكثيرون من الشياطين، وشفي المجانين. وطلب كثيرون من اليونانيين مجرد لمس الشيخ، معتقدين أنهم سيستفيدون. ويقيناً أنه اعتنق المسيحية في تلك الأيام القلية الكثيرون ممن كان يجوز أن يعتنقوها في سنة كاملة، وعندما ظن البعض أنه قد تعب من ازدحام الجماهير، وعلي هذا الأساس صرفهم عنه، قال دون أي اضطراب أن عددهم ليس أكثر من عدد الشياطين الذين صارع معهم في الجبل.

71. وعندما كان منصرفاً. وكنا نحن نعد له الطريق، ووصلنا [124] إلى البوابة، وصرخت امرأة من الخوف وقالت: “انتظر يا رجل الله، فإن ابنتي معذبة جدا من شيطان، أتوسل إليك أن تنتظر لئلا أؤذى أنا أيضا نفسي من الركض”. ولما سمعها الشيخ. وسمع رجاءنا نحن أيضا. أنتظر بكل ارتياح. وإذ اقتربت المرأة انطرحت الفتاة علي الأرض. ولكن لما صلي أنطونيوس ودعا اسم المسيح، قامت الفتاه صحيحة إذ خرج منها الروح النجس، وباركت الأم الله، وقدم الجميع الشكر. وفرح أيضا أنطونيوس نفسه مرتحلا إلى الجبل، كأنه مرتحلا إلى بيته ووطنه.

72. كذلك كان أنطونيوس حصيفا جداً، وكان وجه العجب أنه ولو لم يتعلم القراءة أو الكتابة كان حاضر البديهة وفي غاية الذكاء. جاءه مرة فليسوفان يونانيان مؤملين أن يقيسا ذكاءهما بذكاء أنطونيوس، وكان وقتئذ في الجبل الخارجي، وإذ علم حقيقة شخصيتهما، وذلك من مجرد مظهرهما، جاء إليهما وقال لهما بواسطة مترجم: “لماذا أجهدتما نفسكما أيها الفيلسوفان لتأتيا إلى رجل جاهل؟” ولما قالا أنه ليس جاهلا بل حصيفا جدا، قال لهما: “إن كنتما قد أتيتما إلى رجل جاهل فقد أسرفتما في تعبكما، أما أن كنتما تعتقدان أنني حكيم فتستطيعان أن تصبرا ، لأننا ينبغى أن نقتدي بما هو صالح. ولو كنت قد ذهبت إليكما لاقتديت بكما. أما وقد أتيتما إلى وجب أن تكونا مثلي، لأنني مسيحي”. فانصرفا منذهلين سيما لما رأيا أنه حتى الشياطين تخشى أنطونيوس.

73. وفي مرة أخرى قابله في الجبل الخارجي آخرون كهذين الفيلسوفان، وظنوا أن يهزءوا به لأنه لم يتعلم الحروف. فقال لهم أنطونيوس “ماذا تقولون، ما الذي وجد أولاً العقل أم الحروف؟ وأيهما علة الآخر، هل العقل علة الحروف، أم الحروف علة العقل؟”. وعندما أجابوا بأن العقل هو الذي وجد أولاً، وأنه هو مخترع الخروف، قال أنطونيوس: “إذاً فمن كان له عقل راجح أصبح في غير حاجة إلى الحروف”.

وأذهلت هذه الإجابة كلا من الواقفين والفلاسفة، فانصرفوا منذهلين إذ رأوا فهما غزيراً كهذا في رجل غير متعلم، لأن طباعه لم تكن خشنة كمن قد عاش في الجبل وشاخ فيه بل كانت رقيقة مهذبة، وكان كلامه مصلحاً بالملح الإلهي، حتى أنه لم يتضايق منه أحد، بل سر منه كل الذين زاروه.

74. بعد هذا جاءه أيضاً آخرون وكان هؤلاء يعتبرون حكماء بين اليونانيين، وطلبوا منه سبب إيمانه بالمسيح. ولما حاولوا أن يحاجوه بصدد الكرازة بالصليب الإلهي، قاصدين الاستهزاء، توقف أنطونيوس قليلاً، وشفق أولاً علي جهلهم، ثم قال بواسطة مترجم استطاع ترجمة كلماته بمهارة: “أيهما أجمل، هل الاعتراف بالصليب، أم أن تنسبوا الزنى ومضاجعة الأولاد لما تسمونه آلهة؟ لأن ما اخترناه نحن هو علامة الشجاعة وعلامة أكيدة علي احتقار الموت، أما أنتم فقد اخترتم شهوات الخلاعة” وثانيا “أيهما أفضل: هل القول بأن كلمة الله لم يتغير ولكنه، وهو هو بنفسه، اتخذ جسداً بشرياً من أجل خلاص الإنسان وغيره، وحتى إذا ما اشترك في الميلاد البشري أمكن أن يجعل الإنسان شريكا للطبيعة الإلهية الروحية [125]، أم تشبيه الذات الإلهية بالحيوانات عديمة الإحساس ، وبالتالي عبادة البهائم ذوات الأربع، والزحافات وأشباه الناس، لأن هذه موضوع احترامكم أيها الحكماء. وكيف تتجاسرون علي تهزيئنا نحن الذين نقول أن المسيح ظهر كإنسان إذ رأى أنكم وقد أحدرتم النفس من السماء تؤكدون أنها قد ضلت وسقطت من قبة السماء إلى الجسد؟ وليتكم قلتم أنها سقطت في الجسم البشري فقط، دون أن تؤكدوا أنها تتغير إلى البهائم ذوات الأربع والزحافات، لأن إيماننا يصرح بأن مجيء المسيح كان لخلاص البشر، أما أنتم فتضلون إذ تقولون أن النفس لم تخلق. ونحن إذ نتأمل في قدرة ومحبة العناية الإلهية نعتقد أن مجيء المسيح في الجسد لم يكن أمراً مستحيلا علي الله”.

ولكنكم رغم اعتباركم النفس بأنها شبه العقل [126] فإنكم تربطونها بالسقطات، وتتوهمون في أساطيركم بأنها متغيرة، وبالتالي تبتدعون تلك الفكرة بأن العقل نفسه متغير بسبب النفس، لأنه مهما كانت طبيعة الشبيه فيتحتم أن تكون هي نفس طبيعة المشبه به. فاذكروا كلما خطرت ببالكم مثل هذه الأفكار عن العقل أنكم تجدفون علي أب العقل نفسه.[127]

75. أما عن الصليب فأيهما أفضل: هل حمله عند الاصطدام بمؤامرة من الأشرار ، دون الخوف من الموت، مهما أتى في أي وضع من أوضاعه[128]، أم الثرثرة الكثيرة عن تحركات أوزوريس، وإيزيس، ومؤامرة تيفون، وطيران كرونس وأكله أولاده وذبح أبيه؟ لأن هذه هي حكمتكم، وأن هزأتم بالصليب فكيف لا تتعجبون من القيامة؟ لأن نفس الأشخاص الذين أخبرونا عن الأخيرة كتبوا عن الأول. ولماذا عندما تذكرون الصليب تخرس ألسنتكم عن ذكر الأموات الذين قاموا، والعمي الذين نالوا البصر، والمفلوجين الذين شفوا، والبرص الذين طهروا، والمشى علي البحر، وباقي الآيات والأعاجيب، التي تبين أن المسيح ليس إنسانا بل هو الله؟ أنتم تبدون في نظري بأنكم تظلمون أنفسكم كثيرا، ولم تقرأوا كتابنا المقدس بانتباه. فاقرأوا وانظروا كيف أن أعمال المسيح تبرهن علي أنه هو الله أتى إلى الأرض لخلاص البشر.

 76. ثم خبرونا عن معتقداتكم الدينية. ماذا تستطيعون قوله عن المخلوقات عديمة الإحساس سوى عدم الإحساس والشراسة؟ أما إن كنتم ـ كما أسمع ـ تريدون أن تقولوا أنكم تتكلمون عن هذه الأشياء كمجرد أساطير فتقولون أن هتك عرض الفتاة برسيفونا يرمز للأرض، وأن عرج هيفاستوس يرمز إلى النار، وأن الهواء يرمز إلى هيرا، والشمس يرمز إليها أبولون، والقمر أرطاميس، والبحر بوسيدون، فإنكم لا تعبدون الله نفسه، بل تعبدون المخلوق دون الله خالق كل الأشياء. وإن كنتم قد ابتدعتم مثل هذه الأساطير بسبب جمال الخليقة، فكان خليقا أن تقفوا عند حد الإعجاب بها، وإلا فقد حان لكم أن تحولوا مجد البناء إلى المنزل الذي بناه، وتحولوا مجد القائد إلى الجندي. أي جواب تعطونه عن هذه الأمور إذا لكي نعرف إن كان في الصليب ما يستحق الاستهزاء”؟

77. وعندما وقعوا في حيرة، وتلفتوا هنا وهناك، ابتسم أنطونيوس وقال: “إن المنظر نفسه يحمل الدليل المقنع لهذه الأمور. ولكن طالما كنتم تفضلون الارتكاز علي حجج وصفية، وطالما كنتم تريدوننا أن لا نعبد الله إلا بعد مثل هذه البراهين التي تحذقونها، فهل لكم أن تخبرونا أولاً كيف تعرف بدقة كل الأمور بصفة عامة ومعرفة الله بصفة خاصة؟ هل بطريقة الحجج الوصفية أم بعمل الإيمان. وأيهما أفضل، الإيمان الذي يأتي بعمل الله الداخلي أم الحجج الوصفية.

وعندما أجابوا بأن الإيمان الذى يأتي بالعمل الداخلي أفضل وأنه هو المعرفة الدقيقة، قال أنطونيوس “حسنا أجبتم، لأن الإيمان ينشأ من ميل النفس، أما المنطق فمن ذكاء مخترعه، لذلك فإن الذين يحصلون علي العمل الداخلي بسبب الإيمان ليسوا في حاجة إلى الحجج الوصفية، بل هي زائدة عن الحاجة، لأنكم تحاولون أن تبرهنوا بالكلام ما نعرفه بالإيمان، وكثيرا ما عجزتم حتى عن التعبير عما نعرفه نحن، ولذلك فإن عمل الإيمان الداخلي أفضل وأقوى من حججكم الفنية.

78. لذلك نحن المسيحيين نتمسك بالسر، لا في حكمة الحجج الفلسفية، بل في قوة الإيمان المعطى لنا بغني من الله يسوع المسيح. وللتدليل علي صحة هذا القول: هوذا الآن نحن نؤمن بالله. دون تعلم القراءة والكتابة، عارفين من أعماله عنايته الشاملة بكل الأشياء.

وللتدليل علي أن إيماننا فعال هوذا نحن الآن مدعمون بالإيمان بالمسيح، أما أنتم فتعتمدون علي مماحكاتكم الكلامية. وهوذا خرافات الأوثان قد تلاشت، وأما إيماننا فيمتد في كل مكان، هوذا أنتم بحججكم ومماحكاتكم لم تحولوا أحداً من المسيحية إلى الوثنية. أما نحن فإذ ننادى بالإيمان بالمسيح ندحض خرافاتكم، لأن الجميع يعترفون بأن المسيح هو الله وابن الله.

انتم بفصاحتكم لا تعطلون تعليم المسيح. أما نحن فبمجرد ذكر المسيح مصلوبا نطارد كل الشياطين التى تخشونها كأنها آلهة، فحيث وجدت إشارة الصليب [129] ضعف السحر فتلاشت قوة العرافة.

79. “أخبرونا إذا أين هي أقوال آلهتكم؟ أين هو سحر المصريين؟ أين هي ضلالات السحرة؟ متى بطلت كل هذه وبدأت تضعف إلا عندما قام صليب المسيح؟ أهذا يستحق أن يكون موضوع هزء وسخرية ؟ أو ليس بالأحرى تلك التي انقشعت أمامه وافتضح ضعفها؟ والعجيب أن ديانتكم لم تلق أي اضطهاد، بل يكرمها الناس في كل مدينة، أما أتباع المسيح فيلقون الاضطهاد. ومع ذلك فديانتنا تزدهر وتتكاثر أكثر من ديانتكم. كل ما عندكم يتبدد، رغم ما يلقاه من تمجيد وإكرام. أما إيمان المسيح وتعاليمه فقد ملأت العالم، رغم هزئكم بها واضطهاد  الملوك لها فى أغلب الأديان لأنه متى ازداد ضياء معرفة الله؟ أو متى ظهر ضبط النفس وسمو البتولية؟ ومتى احتقر الموت إلا عندما ظهر صليب المسيح؟ وهذا ما لا يشك فيه أحد حينما يرى الشهيد محتقرا الموت من أجل المسيح، ويرى عذارى الكنيسة حافظات أنفسهن طاهرات وبلا دنس من أجل المسيح.

80. وهذه العلامات كافية للبرهان علي أن إيمان المسيح وحده هو الديانة الحقة. ولكن انظروا، أنتم لا تؤمنون بعد، ولا تزالون تطلبون حججا، وعلى أي حال فإننا نقدم برهاننا، كما كان معلمنا لا بكلام الحكمة المقنع[130]، بل نقنع بالإيمان الذى يسبق براهين الحجج. هوذا هنا بعض المعذبين جداً بالشياطين (وكان هنالك وقتئذ بعض المرضى المعذبين جدا بالشياطين، فأتى بهم في الوسط وقال) فهل تستطيعون تطهيرهم بالحجج أو بأي فن أو سحر تختارون، داعين أصنامكم؟ وإلا فكفوا عن منازعتنا إن عجزتم، وعندئذ ترون قوة صليب المسيح.

قال هذا ودعا المسيح. ورشم المرضى مرتين أو ثلاث مرات بعلامة الصليب، وللحال وقف الرجال أصحاء، وفي عقلهم السليم، وقدموا الشكر للرب في نفس اللحظة. فتعجب الفلاسفة وذهلوا للغاية من فهم الرجل ومن الآية التى صنعت. أما أنطونيوس فقال: “لماذا تتعجبون من هذا؟ لسنا نحن الذين نعمل هذه الأمور، ولكن المسيح هو الذى يعملها بواسطة من يؤمنون به، لذلك آمنوا أنتم أنفسكم أيضا تروا أنه ليست لدينا حيل كلامية، بل إيمان عن طريق المحبة التى وجدت فينا نحو المسيح، والتي إن حصلتم عليها أنتم أنفسكم لما طلبتم فيما بعد حججا وصفية، بل اعتبرتم الإيمان بالسيد المسيح كافياً”.

هذه هي كلمات أنطونيوس، وإذ تعجبوا من هذا أيضا حيوه وانصرفوا معترفين بالفائدة التى نالوها منه.

81. ووصلت شهرة أنطونيوس حتى إلى الملوك، لأن الإمبراطور قسطنطين وولديه قسطنطينوس وقسطنس كتبوا خطابات إليه، كما إلى أب، ورجوه أن يرسل الرد إليهم، ولكنه لم يتفاخر بالخطابات، كما أنه لم يغتبط بالرسائل، بل  لبث كما قبل أن يكتب الأباطرة إليه، ولكنهم عندما أحضروا إليه الخطابات دعا الرهبان وقال: “لا تتعجبوا، إن الله كتب الشريعة للبشر، وكلمنا في أبنه”[131]. فإنه لم يرغب قبول الخطابات قائلاً: إنه لا يعرف أن يكتب ردا لرسائل كهذه. ولكن لسبب حث الرهبان له، لأن الأباطرة كانوا مسيحيين، ولئلا يعثروا علي أساس أنهم قد امتهنت كرامتهم، لذلك قبل أن تقرأ الخطابات عليه، وكتب الرد مادحا إياهم لعبادته للمسيح ومقدما إليهم النصيحة في الأمور المتعلقة بالخلاص طالبا أن لا يفكروا كثيرا في الحاضر، بل ليذكروا بالأحرى الدينونة العتيدة ويعرفوا أن المسيح وحده هو الملك الحقيقي الأبدي. ورجاهم أن يكونوا رحماء ، وأن يهتموا بالعدل وبالفقراء. أما هم ففرحوا لاستلامهم الرد….

هكذا كان عزيزا عند الجميع، وكان الجميع يتمنون أن يعتبروه أباً

82. وإذ اشتهر بأنه عظيم ، وكان يجيب علي أسئلة كل من يراه، عاد إلى الجبل الداخلي، وتمسك بنسكه العادي. وعندما كان يأتي إليه الناس وهو جالس أو ماش، كانوا يرونه صامتا[132]، كما هو مكتوب في دانيال. وبعد فرصة كان يستأنف حديثه مع الأخوة الذين كانوا معه. وكان رفقاؤه يدركون أنه قد رأى رؤيا. لأنه عندما كان يجلس علي الجبل كثيرا ما يرى ما هو حادث في مصر، ويرويه إلى سرابيون الأسقف [133] الذى كان معه في صومعته، وأن كثيرا بسبب ما رأى، وبعد فترة معينة عاد إلى الواقفين بجانبه بأنات ورعدة، وصلى. وإذ جثا علي ركبتيه ظل هكذا وقتا طويلا. وعندما قام ذلك الشيخ بكى، فأراد رفاقه أن يعرفوا جلية الأمر، وأتعبوه كثيرا حتى اضطر للكلام. وبأنات قال ما يلي: “يا بنى، كان خيرا لي أن أموت قبل أن يحدث ما ظهر لي في الرؤيا”. وعندما سألوه ثانيه أنفجر بالدموع وقال: “إن الغضب يوشك أن يحل بالكنيسة، وهى علي وشك أن تسلم إلى أناس عديمي الإحساس كالبهائم، لأنني رأيت مائدة بيت الرب واقفا حولها بغال من كل جهة في حلقة مستديرة، ترفس الأشياء التي فيها كما يرفس القطيع عندما يقفز مضطربا” . ثم قال “وأنتم قد رأيتم كيف كنت أئن، لأنني سمعت صوتا يقول أن مذبحي سوف يتنجس”.

هذه الأمور رآها ذلك الشيخ. وبعد سنتين حدثت ثورة الأريوسيين الحالية. ونهبت الكنائس، عندما اغتصبوا الأواني المقدسة بعنف، وحملوها للوثنيين، وعندما ألزموا الوثنيين الذين في السجون بالاشتراك في خدماتهم، وعملوا ما أرادوا علي المائدة في حضورهم، عندئذ فهمنا أن رفسات البغال كانت تنبي أنطونيوس بما يفعله الأريوسيين الآن بدون إحساس كالبهائم.

ولكن عندما رأى هذه الرؤيا عزى الذين معه قائلا: لا تنكسر نفوسكم يا أولادي، لأنه كما غضب الرب فإنه سيعود ويشفينا، ويعود إلى الكنيسة هدوءها ثانية، وتضئ كما اعتادت أن تضئ، وترون المضطهدين يتراجعون وينسحب الإثم ثانية إلى مخابئه، ويتكلم الإيمان المبارك بجسارة في كل مكان بكل حرية، فقط لا تدنسوا أنفسكم مع الأريوسيين، لأن تعليمهم ليس تعليم الرسل بل تعليم الشياطين وأبيهم إبليس ، لكنه بالأحرى عقيم وبلا معنى، وخال من أى فهم سليم مثل هذه البغال عديمة الإحساس.

83. هذه هي كلمات أنطونيوس، ويجب أن لا نشك في إمكانية حدوث مثل هذه العجائب علي يد إنسان، فهذا هو وعد المخلص عندما قال “لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل أنتقل من هنا فينتقل، ولا يكون شئ غير ممكن لديكم[134]، وأيضا “الحق الحق أقول لكم أن كل ما طلبتم من الأب باسمي يعطيكم، اطلبوا تجدوا” [135] وهو نفسه الذى قال لتلاميذه ولكل من يؤمنون به “أشفوا المرضى أخرجوا شياطين مجانا أخذتم مجاناً أعطوا”[136]

84. وعلى آي حال فإن أنطونيوس لم يشف المرضى  بإعطاء الأمر بل بالصلاة والنطق باسم المسيح، ولذا فقد كان واضحا للجميع أنه لم يكن هو الذى يعمل بل الرب الذى أظهر رحمة علي يديه، وشفى المتألمين، أما نصيب أنطونيوس فكان الصلاة والنسك، اللذين من أجلهما لبث فى الجبل، فرحاً بالتأمل في الإلهيات، وحزينا عندما كانت تجهده كثره الجماهير، مما كان يضطره للانسحاب إلى الجبل الخارجي. فطالما ألح عليه كل القضاة أن ينزل إليهم، لأنه كان مستحيلا عليهم الدخول بسبب المتقاضين الذين يتبعونهم، لذلك طلبوا منه أن يأتى إليهم ليروه ، وعندما رفض الذهاب إليهم ظلوا ثابتين، وأرسلوا إليه الأسرى تحت حراسة الجند، لعله ينزل من أجل هؤلاء. وإذ كانت تضغط عليه الضرورة ورآهم ينتحبون دخل الجبل الخارجي، ولم يصبح تعبه بلا جدوى، لأن مجيئه كان نافعا للكثيرين، وللقضاة أنفسهم، إذ نصحهم ليفضلوا العدل علي كل شئ، ويخافوا الله، ويعرفوا أنه بالدينونة التى بها يدينون يدانون[137]. أما هو فأحب إقامته في الجبل أكثر من كل شئ.

85. ومرة أخرى عاني نفس الضغط ممن كانت لهم حاجات ملحة وبعد توسلات كثيرة من قائد الجند نزل، وعندما جاء كلمهم بإيجاز عما يؤول إلى الخلاص، وعمن كانوا يحتاجون إليه، ثم أسرع في الانصراف. ولكن عندما توسل إليه الدوق ـ كما كان يدعى ـ لكي ينتظر، أجاب بأنه لا يستطيع البقاء بينهم وأقنعهم بابتسامة جميلة قائلا “إن بقى السمك طويلا علي الأرض الجافة مات. هكذا يفقد الرهبان قوتهم إن توانوا بينكم وصرفوا وقتهم معكم. لذلك كما يجب أن يسرع السمك إلى البحر، هكذا ينبغي أن نسرع إلى الجبل لئلا إذا تأخرنا ننسى ما بداخلنا”. ولما سمع القائد هذا وأشياء كثيرة غيرها منه ذهل وقال: “يقينا إن هذا الرجل خادم الله، لأنه لو لم يكن محبوبا من الله فمن أين كان مثل هذا الفهم العظيم لإنسان جاهل؟”.

 86. وكان هناك قائد يدعى بلاسيوس اضطهدنا نحن المسيحيين بعنف بسبب رعايته للأريوسيين، ذلك الاسم  المشئوم. وإذ اشتدت به قساوة القلب، حتى أنه ضرب العذارى، وجرد الرهبان وجلدهم. كتب أنطونيوس في ذلك الوقت خطابا وأرسله إليه، وهذه فحواه: “أنني أرى الغضب قادما عليك، لذلك كف عن اضطهاد المسيحيين لئلا يحل بك الغضب، لأنه الآن علي وشك المجيء إليك”.

أما بلاسيوس فضحك، وألقى بالخطاب علي الأرض، وتفل عليه وأهان حامليه، وأمرهم أن يبلغوا أنطونيوس ما يلى: “طالما كنت مهتما بالرهبان فسآتي إليك أنت أيضا سريعا”. ولم تمضى خمسة أيام حتى حل عليه الغضب، لأن بلاسيوس ونسطور [138] والي مصر. خرجا إلى أول مكان للاستراحة بعد الإسكندرية، ويدعي كيريو، وكان كل منهما ممتطيا جواده، وكان الحصانان ملكا لبلاسيوس وهما أهدأ ما في اسطبله. ولكنهما لم يبعدا كثيرا في طريقهما إلى المكان المقصود حتى بدأ الحصانان يطفران معاً كعادتهما، وفجأة عض الحصان الأهدأ ـ الذى كان راكبا عليه نسطور ـ  بلاسيوس فأوقعه عن حصانه، ثم هجم عليه، فمزق فخده بأسنانه بحالة أليمة، حتى أنه حمل إلى المدينة في الحال، ومات بعد ثلاثة أيام. وتعجب الجميع لأن ما تنبأ به أنطونيوس تم سريعا.

87. وهكذا حذر القساة. أما الباقون الذين جاءوا إليه فإنه علمهم حتى نسوا شئونهم في الحال. وهنئوا الذين اعتزلوا عن العالم. ثم أنه كان يواسى المظلومين بطريقة عجيبة جدا، حتى كان يخيل إليك أنه هو المتألم لا الآخرون.

وعلاوة علي هذا فقد كانت له القدرة علي إفادة الجميع، حتى أن جنودا كثيرين وأشخاصا ممن كانت لهم ممتلكات وافرة تركوا عنهم أثقال الحياة وترهبنوا بقية أيام حياتهم. وكأنه كان طبيبا وهبه الله لمصر. فمن ذا الذى كان حزينا وقابل أنطونيوس دون أن يرجع فرحا مسرورا؟ ومن ذا الذى أتي حزينا من أجل ميته ولم ينزع عنه حزنه في الحال؟ ومن ذا الذى أتي غاضبا ولم يتحول صديقا؟ ومن ذا البائس وكسير الروح الذي لم يحتقر الثروة ويعزى نفسه في فقره بمجرد الاستماع إليه والتطلع إليه؟ أي راهب أتى إليه ولم يتقو بعد أن كان خاملا متكاسلاً؟ أي شاب  أتى الجبل ورأى أنطونيوس دون أن يحرم على نفسه الملذات في الحال ويحب الاعتدال؟ من ذا الذى جرب من الشيطان وأتى إليه دون أن يجد راحة؟ ومن ذا الذى أتى مثقلا بالشكوك دون أن يجد صفاء في ذهنه؟

88. والعجيب في نسك أنطونيوس أنه إذ كانت له موهبة تمييز الأرواح، عرف حركاتها. ولم يجهل أين وجه أحدها نشاطه وصوب هجومه. ولم يكن هو وحده الذى لم ينخدع منها، بل أنه إذ طيب خاطر الذين أثقلتهم الشكوك علمهم كيف ينتصرون علي حيلها مبينا لهم ضعف ومكر تلك الأرواح  التى تسلطت عليهم. وهكذا نزل كل واحد من الجبل كأنه قد أعده للحرب غير مبال بمؤامرات إبليس وشياطينه.

وكم من عذارى مخطوبات حفظن عذراويتهن من أجل المسيح بمجرد رؤية أنطونيوس من بعيد. وأتى إليه الناس أيضا من أقطار أجنبية. وإذ حصلوا علي بعض الفائدة رجعوا ـ ككل الباقين ـ كأنهم تلقوا المعونة من أبيهم. ويقينا أنه عندما مات أحس الجميع بأنهم حرموا من أب، وعزوا أنفسهم بمجرد ذكرياتهم له، محتفظين في نفس الوقت بمشورته ونصائحه.

89. وجدير بالذكر أن أقص عليكم كيف كان موته لكي تسمعوا هذا كرغبتكم. لأن نهايته هذه تستحق الإقتداء بها. فإنه كعادته زار الرهبان في الجبل الخارجي، وإذ عرف من العناية الإلهية أن نهايته قد اقتربت، قال للأخوة: “هذه آخر زيارة أقوم بها لكم، وإن رأينا بعضنا بعضاً مرة أخرى في هذه الحياة كان ذلك مثار للدهشة. أخيرا قد قرب وقت ارتحالي، لأنني أشرفت علي المائة وخمسة أعوام”.

وعندما سمعوا هذا بكوا وعانقوا الشيخ وقبلوه. أما هو فتكلم بفرح. كأنه مسافر من مدينة غريبة إلى وطنه. ونصحهم  بأن لا يتكاسلوا في عملهم، ولا يخوروا في تدريبهم، بل ليعيشوا كأنهم مماتون كل يوم، وكما قال لهم سابقا يجب أن يحرصوا كل الحرص علي حفظ النفس من الأفكار الدنسة، وأن يقتدوا بالقديسين بكل نشاط ، ولا تكون لهم أية خلطة “بالمانيين”[139] المنشقين، لأنكم تعرفون أخلاقهم الشريرة الفاسدة. ولا تكن لكم أية شركة مع الأريوسيين لأن كفرهم واضح للجميع ولا تنزعجوا إن رأيتم القضاة يحمونهم، لأن دفاعهم عنهم له نهاية. وعظمتهم زائلة ولمدة قصيرة، لذلك ابذلوا حرصا أوفر لحفظ أنفسكم بلا دنس منهم، ولا حظوا تقاليد الآباء سيما الإيمان المقدس بربنا يسوع المسيح الذى تعلمتموه من الكتب ، والذى طالما ذكرتكم به.

90. ولما ألح الأخوة ليمكث معهم ويموت هناك رفض لأسباب كثيرة كان ينم عنها التزامه الصمت، وكان أخصها هذا السبب: أن المصريين معتادون إكرام أجساد الصالحين ـ سيما أجساد الشهداء ـ بالخدمات الجنائزية، ولفها بالأقمشة الكتانية عند الموت، وعدم دفنها تحت الأرض بل وضعها علي أرائك، وحفظها في منازلهم، ظانين أنهم بهذا يكرمون الراحلين.

وطالما حث أنطونيوس الأساقفة لأعطاء النصائح للشعب في هذه الناحية. كذلك علم العلمانيين ووبخ النساء قائلا: “إن هذا الأمر لا هو شرعي ولا هو مقدس علي الإطلاق ، لأن أجساد الأباء البطاركة الأولين والأنبياء محفوظة إلى الآن في مقابر. ونفس جسد الرب أودع قبراً وضع عليه حجر، وبقي مختبئا إلى أن قام في اليوم الثالث.[140] وإذ قال هذا بين لهم أن من لم يدفن أجساد الموتى بعد الموت تعدى الوصية حتى وأن كانت الأجساد مقدسة، لأنه أي جسد أعظم أو أكثر قداسة من جسد الرب؟ ولما سمع هذا الكثيرون دفنوا الموتى منذ ذلك الوقت تحت الأرض. وشكروا الرب إذ  تلقوا التعليم الصحيح.

91. أما هو، فإذ كان يعرف العادة، ويخشى أن يعامل جسده بتلك الطريقة، أسرع بدخول الجبل الداخلي الذى أعتاد الإقامة فيه، بعد أن ودع الرهبان في الجبل الخارجي. وبعد شهور قليلة حل به المرض. فدعا الراهبين اللذين كانا قد بقيا في الجبل خمسة عشر عاماً  يمارسان النسك، ويخدمان أنطونيوس بسبب تقدمه في السن، وقال لهما: “إنني كما هو مكتوب[141] ذاهب في طريق الآباء، لأنني أرى أنني دعيت من الرب. فكونوا ساهرين، ولا تفسدوا نسككم الطويل، بل كأنكم مبتدئون الآن حافظوا علي عزمكم بغيرة، لأنكم تعلمون خداع الشياطين وكيف أنها متوحشة ولكنها قليلة القوة. لذلك لا تخافوها، بل بالحرى تنسموا المسيح دواماً، وثقوا فيه، عيشوا كأنكم تموتون كل يوم، التفتوا إلى أنفسكم، تذكروا النصائح التى سمعتموها منى. لا تكن لكم شركة مع المنشقين، ولا أية خلطة علي الإطلاق مع الأريوسيين الهراطقة لأنكم تعلمون كيف أنني تجنبتهم بسبب عداوتهم للمسيح وتعاليم هرطقاتهم الغريبة. لذلك كونوا أكثر غيره علي الدوام لأتباع الله أولا ، ثم التمثل بالقديسين، حتى يقبلونكم أيضاً بعد الموت كأصدقاء معروفين ، في المظال الأبدية، تأملوا في هذه الأمور وفكروا فيها. وإن كنتم تحترمونني وتهتمون بي كأب فلا تسمحوا لأى شخص يأخذ جسدى إلى مصر، لئلا يضعوني في البيوت، لأنني دخلت الجبال وأتيت هنا لأتفادى هذا.

” أنتم تعرفون كيف أنني كنت دواما أوبخ من تمسكوا بهذه العادة ونصحتهم ليكفوا عنها، لذلك ادفنوا جسدى، وخبئوه تحت الأرض بأنفسكم وحافظوا علي كلمتي  حتى لا يعرف المكان أحد سواكما. لأنني في قيامة الأموات سأتقبله بلا فساد من المخلص. ووزعوا ثيابي، لأثناسيوس الأسقف أعطوا جلد خروف والرداء الذى أنا مضطجع عليه، والذى أعطانيه هو جديدا، ولكنه عتق معي، ولسابيون الأسقف أعطوا الجلد الآخر، واحتفظوا لنفسكم بالثوب المصنوع من الشعر[142] أما الباقي فخذاه يا ولدى. لأن أنطونيوس راحل ولن يبقى معكما فيما بعد”.

92. وإذ قال هذا قبلاه، ثم رفع رجليه، وكأنه رأى أصدقاء قادمين إليه وفرح بهم، لأنه إذ رقد بدت طلعته باشة، وعندئذ مات وضم إلى الآباء. أما هما فبناء علي وصيته لفاه ودفناه مخبئين جسده تحت الأرض، ولا يعرف أحد حتى اليوم أين دفن سوى هذين الاثنين والذى تقبل جلد الغنم من المغبوط أنطونيوس، والذى تقبل الثوب الذى كان يلبسه، حسبا ذلك كنزا نفيساً، لأن مجرد التطلع إلى هذين الرداءين كان يعتبر تطلعا إلى أنطونيوس. وكل من لبسهما كان يبدوا كأنه حامل نصائحه بفرح.

93. هذه هي نهاية حياة أنطونيوس في الجسد. أما الوصف الذى تقدم فهو لمحة عن نسكه، وأن كان هذا الوصف أقل مما يستحقه. فإنك بهذا يمكنك أن تدرك كيف  كان أنطونيوس رجل الله عظيما. ذاك الذى منذ شبابه إلى سن متقدمة كهذه، احتفظ بغيرة ثابتة نحو النسك، ولم ينغلب بسبب تقدم سنة من شهوة الأطعمة الفاخرة، ولا غير طريقة ملابسه بسبب ضعف جسمه. ومع ذلك ظل سليما من كل أذى، لأن عينيه لم تظلما، بل بقيت سليمتين تماما، وكان يرى بوضوح، أما أسنانه فلم يفقد واحدة منا، بل زادتها شيخوخته ثباتا من اللثة. وظل قوى اليدين والقدمين. وبينما كان كل الناس يستعملون أطعمه منوعة وثيابا متعددة كان هو يبدو أكثر انشراحا وأوفر قوة
(ببساطة طعامه وملبسه).

أما ذيوع شهرته في كل مكان، واحترام الجميع له بإعجاب، واشتاق الذين لم يروه لمشاهدته، فكل هذا برهان واضح علي فضيلته ومحبه الله لنفسه. لأن أنطونيوس لم يشتهر بسبب كتاباته أو بسبب أية حكمة عالمية أو أي فن ، بل بسبب  تقواه نحو الله فقط. وليس من ينكر أن هذه كانت موهبة من الله لأنه من أين كان ممكنا أن يسمع عن ذلك الرجل في أسبانيا وبلاد الغال. فى روما وأفريقيا، لولا الله  الذى يجعل  أخصاءه معروفين في كل مكان، والذى وعد أيضا أنطونيوس  بهذا في البداية؟ لأنهم حتى إن عملوا في الخفاء، وأرادوا أن يبقوا متوارين، إلا أن الرب يظهرهم كمصابيح لإناره الجميع لكي يعرف كل من يسمعون أن وصايا الله قادرة علي أن تقود الناس إلى النجاح، فيزدادوا غيرة في طريق الفضيلة.

94. لذلك إقرأوا هذه الكلمات لسائر الأخوة لكي يعرفوا ماذا يجب أن تكون عليه حياة الرهبان، ولكي يؤمنوا أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح يمجد الذين يمجدونه، ويقود الذين يخدمونه إلى النهاية، ليس فقط إلى الملكوت، بل هنا أيضا يجعلهم ظاهرين (حتى ولو خبئوا أنفسهم وأرادوا الاعتزال عن العالم) ومعروفين تمام المعرفة في كل مكان، بسبب فضيلتهم والمساعدات التى يقدمونها للآخرين. وإن لزم الأمر إقرأوا هذا بين الوثنيين، حتى يعرفوا أن ربنا يسوع المسيح ليس فقط إلهاً وابن الله، بل أيضا أن المسيحيين الذين يخدمونه بالحق ويؤمنون به عمليا لا يبرهنون فقط علي عدم ألوهية الشياطين التى يظنها الوثنيون أنفسهم آلهة، بل أيضا يدوسونها تحت أقدامهم، ويطاردونها كمضللة ومفسدة للبشر.

وذلك بيسوع المسيح ربنا الذى له المجد إلى ابد الآبدين أمين.

 —————————————————
[1]  Anthony the Great
عن كتاب حياة الأنبا انطونيوس للقديس أثناسيوس الرسولى تعريب القمص مرقس داود
  [2]“وكان يعقوب إنساناً كاملاً”، أو “بسيطاً” حسب الترجمة الإنجليزيةأو “سليماً” حسب ترجمة اليسوعيين (تك25:27)
[3] مت 4 : 2
[4] أع 4 : 34  و 35
[5] مت  19 : 21
[6] مت 6 : 34
[7] ولعل المقصود بيت تسكنه العذارى
[8] والأرجح أن الكلمة تعنى صوامع الرهبان
[9] 2 تس 2 : 10
[10] مت 6 : 7، 1 تس 5:17
[11] أى 40:16 يرمز بهيموث ولوياثان للشيطان.
[12]  أنظر تجسد الكلمة  8 : 2 ،  10  : 5
[13] 1 كو 15 : 10
[14]  هو 4 : 12
[15] مز 118 : 7
[16] رو 8: 3، 4
[17] أف 6 : 11
[18] 1كو 9: 27
[19] المقصود الصابون
[20] 2 كو 12 : 10
[21] فى 3 : 14
[22] 1مل 18 : 15
[23] رو 8 : 25
[24] مز 27 : 3
[25] أنظر أع 8 : 20
[26] أنظر “تجسد الكلمة” 47 : 2
[27] مز 68 : 1 ،2
[28] مز 118 : 10
[29] رو 8 : 22
[30] بين النيل والفيوم
[31] أنظر “الرسالة الى الوثنيين” 1
[32] مز 90 : 10 حسب الترجمة السبعينية
[33] أو نصير ملوكاً
[34] رو 8 : 18
[35] جا 4 : 8، 6 : 2
[36] أى الفضيلة
[37] حز 18 : 26  اذا رجع البار عن بره و عمل اثما و مات فيه فباثمه الذي عمله يموت
[38] رو 8 : 28
[39] 1 كو 15 : 31
[40] لو 9 : 62 ، فى 3: 13، تك 19: 26
[41] لو17: 21
[42] يش 24 : 23
[43] مت 3 : 3
[44] يع  1 :20 ، 15
[45] أم 4 : 23
[46] اف 6 : 12
[47] ليس هذا رأي أثناسيوس نفسه الذي يعتبر أن الهواء قد تنقي من الأرواح الشريرة بموت المسيح بالنسبة  للمؤمنين. أنظر  ” تجسد الكلمة” 25: 5 علي أن أثناسيوس لم يقصد أن يقول بأن سلطانها علي الأشرار قد بطل . كما  أن  أنطونيوس لم ينسب إليها  أية سلطة  علي المسيحيين
[48] 2 كو 2 : 11
[49] أنظر ف 13
[50] أى 41 : 18 – 21
[51] أي41 : 27 إلخ
[52] خر  15 :9
[53] أش 10 :  14
[54] أي 41 :  1
[55] أنظر أي 40 : 19 –24
[56] حب2 : 15 حسب الترجمة  السبعينية
[57] لو 4 : 41
[58] مز 50 : 16
[59] مز39 : 1 – 2
[60] مز 38 : 13 –14
[61] يو8 : 44
[62] يشوع بن سيراخ 1: 25
[63] 2 مل 19 : 35
[64] مت 8  : 31
[65] أنظر تجسد الكلمة 3:  3
[66] لو 10 : 19
[67] هذه الفكرة المادية عن الشياطين  قد تكون  مستقاة من آراء أوريجانوس وغيرة، ولكنها ليست فكرة أثناسيوس، أو لعل  المقصود الأجساد التي تتخذها أحيانا
[68] سوسنه43
[69] تجسد الكلمة 47
[70] أنظر مثلا الفصلين التاليين 60  ، 63 وهذا  أبعد مما يذهب إليه أثناسيوس نفسه. وهو في نفس الوقت قريب مما قال عن الأحلام في رسالته إلى الوثنيين  ف 30 وعن قدرة النفس في المرئيات” تجسد  الكلمة” 17 : 3
[71] 2 مل 5 : 26
[72] 2 مل 6 :  17
[73] كو 2 : 15
[74] مت  12 : 19 أنظر  أيضاأش42 : 2
[75] لو1  : 13
[76] مت 28 :  5
[77] لو 2 :  1
[78] يو 8 : 56
[79] لو 1 : 41- 44
[80] مت 4 : 10
[81] لو 10 : 20
[82] مت 7 : 22
[83] 1 يو 4 : 1
[84] مز 20 : 7
[85] مز 38 : 14
[86] رو 8 : 35
[87] لو 18 : 10
[88] 1 كو 4 : 6
[89] مز 9 : 6
[90] هذه ملاحظة هامة تتفق مع علم النفس
[91] يش 5 : 13
[92] سوسنة 51 – 59
[93] عد 24: 5 – 6
[94] مت 6 : 25 ،  31- 32 ، لو 12 : 29
[95] سنة 303 – 311
[96] استشهد في 25 نوفمبر 311م، أنظر تاريخ الكنيسة ليوسابيوس 7 : 32
[97] لو 11 : 9
[98] Bucolia  في الوجه البحري
[99] اف 6 : 12
[100] مز 125 : 1
[101] أي 5 : 23
[102] مز 35 : 16
[103] أم 24 : 15 الترجمة السبعينية
[104] أف 4 : 26
[105] 2 كو 13 : 5
[106] 1 كو 3 : 5 ، رو 2 : 16
[107] غل 6 : 2
[108] Busiris Triplitana
[109] مت 9 : 20
[110] وادي النطرون
[111] مت 14 : 28
[112] اف 2: 2
[113] اف 6 : 13
[114] تي 2 : 8
[115] 2 كو 12 – 2
[116] اش 53 : 13، يو 6 : 45
[117] أم 15 : 13
[118] تك 31 : 5 ، 1 صم 16: 12، 17: 32
[119] نسبة إلى ميليتوس الأنطاكي وكان أسقف لأنطاكية ونفي ، ثم خلفه يوزيوس شريك أريوس في بدعته .
[120] اتباع مانى ( 215 – 276 م) الذى نادى بأن كل الأشياء نشأت من مصدرين : الظلام والنور. الخير والشر
[121] من 25 –  27 يوليه سنة 338
[122] 2 كو 6 : 14
[123] كانت هذه حجة طالما استعملت لتفنيد أراء الأريوسيين، ويصح تشبيه حجج أنطونيوس بحجج أثناسيوس
[124] هذا يظهر أثناسيوس مؤرخاً صادقا
[125] انظر تجسد الكلمة 54 : 3 ، 2 بط 1: 4
[126] نادى بلوتينوس بأن النفس صورة للعقل كما أن الكلام الذى تنطق به صورة الكلام الذي في النفس.
[127] من المدهش حقا أن نرى أنطونيوس، وهو يجهل اليونانية والحروف، يحاج عن النظريات الفلسفية الأفلاطونية. لقد قضي حياته كلها ـ فيما عدا زيارتين قصيرتين إلى الإسكندرية ـ بعيداً عن مثل هذه المناقشات ومع ذلك فليس من السهل أن نقول كيف أن شخصا قوى الذهن حاد الذاكرة استطاع أن يلتقط من مناقشة زواره الكثير عن تلك المواضيع العويصة.
[128] تجسد الكلمة 24: 3
[129] تجسد الكلمة 47 : 4
[130] 1 كو 2 : 4
[131] عب 1 : 2
[132] “مبهوتا” حسب ترجمة اليسوعيين( دا 4 : 16 ) أو “متحيرا” حسب ترجمة بيروت ( دا 4 : 19)
[133] أسقف تمويس وهو صديق أثناسيوس
[134] مت 17 : 20
[135] يو 16 : 23 – 24
[136] مت 10 : 8
[137] مت 7 : 2
[138] كان نسطور والياً علي مصر سنة 345 إلى 352
[139] أنظر الحاشية رقم 115
[140] يو 19 : 41 ، مت 27 : 60
[141] يش 23: 14
[142] قال جيروم أن أنطونيوس تقبل من بولس الطيبى (نسبة إلى طيبة ) بدله كهنوتية مصنوعة من أوراق النخيل، وكان يلبسها دواما في الأعياد، فلو كان لهذه التركة وجود وهى الأثمن من أرجوان الملوك لما كان قد غفل عنها أنطونيوس في الوصية بممتلكاته العالمية. ولذلك فإن عدم ذكر شئ عن هذه الحلة الكهنوتية في هذا الكتاب قد يلقى الشك علي رواية جيروم.

Share this content:

إرسال التعليق

You May Have Missed