×

أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ ــ الأب متى المسكين

أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ ــ الأب متى المسكين

أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ

الأب متى المسكين

تفسير لقصة الميلاد من إنجيل معلمنا لوقا البشير ــ الإصحَاحُ الثَّانِي (الجزء الثالث)

maxresdefault-1 أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ ــ الأب متى المسكين2:2 «وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ [1] وَالِيَ سُورِيَّةَ.»

هنا يعطي القديس لوقا قرينة لتحدد زمان الاكتتاب، فجعله الأول ليميزه عن أي اكتتاب آخر غير رسمي سبق أن صدر أو أي اكتتاب آخر جاء بعد ذلك[2]. ثم زاد تمييزه بذكر كيرينيوس أنه كان وقتها والياً على سورية. إلى هذا الحد كان القديس لوقا مُدقِّقاً في تحديد هذا الزمان. وللأسف أخفق المؤرخون المحدثون: أولاً: عن فهم قصد القديس لوقا؛ وثانياً: عن الوصول إلى بؤرة هذا التحديد المتقن. وكل هذا وغرض القديس لوقا الهام أن يربط هذا اليوم المقدَّس المبارك بتاريخ العالم.

3:2و4 «فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ.»

هنا تضافر العلماء ليحدِّدوا كل الظروف والأسباب التي حَدَتْ بالإمبراطور لإصدار هذا الأمر بالاكتتاب. ويعوزني هنا المكان، ويعوز القارئ القدرة على المتابعة لأُسجِّل له أبحاث ما يقرب من عشرين عالماً من أقوى علماء التاريخ والكتاب المقدس، ولكن يمكن للقارئ الرجوع إلى كتاب العالم هوارد مارشال في كتابه لشرح إنجيل القديس لوقا صفحة 100 ليطَّلع على مجرد أسماء وأبحاث هؤلاء العلماء.

نستخلص من ذلك أن الإمبراطور أصدر هذا الأمر بالاكتتاب ليكون عاماً ويشمل كل الأراضي التي تحت سلطانه. والسبب الأساسي هو إدارة وترتيب سياسة الإمبراطورية وتقنين الضرائب. أما بخصوص ذهاب كل واحد إلى مدينته، فكان ضمناً ليسجِّل في سجلات الدولة أملاكه ومخصصاته تحت إشراف الحكام.

ولكن يؤكِّد القديس لوقا هنا في الآية (4:2) أن يوسف انطلق إلى مدينة بيت لحم: «لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ.» وهنا إشارة ذكية أن يوسف أدرك بالروح ومن ملابسات إعلان الملاك أنه قد أصبح مسئولاً أمام الله والتاريخ عن عودة العذراء مع ابنها المنتظر، وهو المخلِّص رجاء كل اليهود والعالم إلى مدينة أبيه داود، بيت لحم اليهودية، ليولد فيها حسب النبوات وحسب رجاء كل اليهود، الأمر الذي جعله يحمل همَّ وبركة رحلة العذراء السريعة وهي حامل في شهرها الأخير ليتم ميلاد الطفل في مدينة بيت لحم مهما كلَّفه من جهد ومخاطر، واثقاً أن الأمر يخص الله وهو الذي سيعوله. لهذا كان يوسف سريع الحركة للقيام بهذه المخاطرة غير هيَّاب، إذ لم يكن دافعها الاكتتاب بالنسبة لنفسه، ولكن بالأكثر تسجيلاً لميلاد يسوع المخلِّص في مدينة داود أبيه. وهذا هو سر الرد على الذين يعترضون كيف يأخذ معه العذراء ويجشِّمها مشقة هذا السفر الخطر وهي مجرد مخطوبة له وليست محسوبة أنها امرأته؟ علماً بأن الملاك كلَّفه رسمياً بأن يمثل نفسه أباً للطفل عندما أمره أن يأخذ العذراء الحامل وهي مخطوبة امرأة له رسمياً، ذلك بحسب الله، ليتصدَّى أمام العالم بأنه رجل مريم وأبو الولد!! وهكذا تسجَّل، وهكذا عاش! وهذا هو سرُّ الرد على ذِكر الإنجيل باستمرار أن يوسف كان رجل مريم، وكان بالتالي وحسب أمر الملاك، أباً للمسيح أمام العالم.

بهذا تظهر قصة ميلاد المسيح بأسرارها أنها تحمل كل أسرار حياته وأقواله وأعماله وخاصة اللاهوتية منها، فكل الأسئلة والمآخذ والانتقادات التي يخوض فيها النقاد بالنسبة لحياة المسيح وأعماله تعود أساساً إلى جهلهم بحقائق الميلاد.

5:2 «لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى.»

هنا يكشف القديس لوقا أهمية هذا الاكتتاب القصوى بالنسبة لميلاد المسيح، كون يوسف سيُسجَّل رسمياً أنه رجل مريم، وبالتالي أبٌ للطفل يسوع. وهنا التركيز واقع على تسجيل سنة ميلاد المسيح رسمياً وبالدرجة الأولى. والآن كيف نبلغ إلى هذه السنة‍؟ فكما سبق وقلنا إنه تأكَّد للمؤرخين المشتغلين بقصة ميلاد المسيح أنه وُلد في أيام حكم هيرودس الكبير«وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ.» (مت 1:2). فإن كان موت هيرودس قد تسجَّل سنة 4 ق.م، وكان كيرينيوس قد تولَّى على سورية مرتين، الأولى منها كانت سنة 64 ق.م. فبهذا استطاع القديس لوقا أن يحصر تاريخ ميلاد المسيح بدقة إلى أقرب سنة بين 64 ق.م. وقد أُضيف من الأبحاث والبراهين التي تمت بواسطة علماء الفلك الكبار مثل كبلر وزملائه، أن ظهور النجم العظيم في السماء بملاحظة علماء الفلك الكلدانيين الذين دُعوا بالمجوس، أمكن رصد تحركاته الثابتة، والتأكُّد من ظهوره في نفس هذا التاريخ أي من 64 ق.م. فلو رجعنا إلى نبوة بلعام بخصوص ظهور كوكب يعقوب نجم المسيَّا نرى أن حسابات الفلكيين داخلة حتماً في صميم تحقيق النبوة إنجيلياً: «أَرَاهُ وَلكِنْ لَيْسَ الآنَ. أُبْصِرُهُ وَلكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ ……….» (عدد 17:24)

6:2 «وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ».

إن القارئ ليكاد تنحبس أنفاسه كيف عبرت هذه العذراء القديسة 90 ميلاً من الناصرة إلى بيت لحم في أرض وعرة وهي في أيامها الأخيرة؟ ولكن من أميز صفات كاتب هذه القصة أي القديس لوقا، بل من أميز صفات يوسف، وبالتالي العذراء، وبالتالي الإنجيل، هذه الغلالة من السريَّة التي يلفها الصمت العميق بالنسبة لهذه الحوادث الجسام المليئة بالأعاجيب، وليس إزاء هذا السرد المهيب إلاَّ أن يتذرع الإنسان أيضاً بالصبر في الجري وراء تحقيق هذه الحوادث، وبالصمت لعلَّه يبلغ السرَّ. فنحن بصدد قصة سماوية أشخاصها قديسون وملائكة وقوات فلكية مسخَّرة‍!

7:2 «فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ.»

قلبي على هذه الأم الوحيدة، كيف احتملت المخاض وحدها؟ كيف استقبلت الطفل بيديها؟ كيف قمَّطته وهي منهوكة القوى؟ ماذا شربت وماذا أكلت؟ اشهَدْنَ يا نساء العالمين على أُم المخلِّص، كم عانت؟ وكم تستحق التمجيد؟ عزائي الوحيد أن الرحلة الشاقة ذات الأربعة الأيام والتسعين ميلاً سهَّلت الوضع بحسب خبرة أصحاب التوليد وأهَّلتها لمعونة ملائكية، وأُخفيت عن الإنجيل ليزداد عطفنا عليها وحبُّنا لها.

وهكذا استقبل العالم المسيَّا الموعود رجاء كل الدهور«نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ.» (لو 32:2) في مذود للبهائم. ويبدو أن في هذا تعيير شديد لإسرائيل، كون المسيح قد استأمن البهائم على حياته ولم يستأمن بيت يعقوب«اِسْمَعِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَأَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ، لأَنَّ الرَّبَّ يَتَكَلَّمُ: «رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ، أَمَّا هُمْ فَعَصَوْا عَلَيَّ. اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ.» (إش 2:1و3)

وقول القديس لوقا هنا «فولدت ابنها البكر prwtÒtokon»  فهذا بحسب الفكر اليهودي يعني فاتح رحم. والتدقيق هنا على إجراءات التطهير التي أوصى بها الناموسُ الوالدةَ من جهة التطهير الذي أتمَّته بحسب الإنجيل. كما أنه يتحتَّم إجراء طقوس على الابن البكر لتكريسه لله بحسب الناموس (خر 12:13؛ 19:34). علماً بأن البكر له الميراث، فهو وارث لداود حتماً. فهو، إذن، وبالضرورة، صاحب مملكة داود أبيه كقول الملاك للعذراء: «هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ.» (لو 32:1و33). وبالتالي فهو المسيَّا!! هذا هو القصد الإلهي من قوله: «ابنها البكر» (انظر: 2مل 27:3، 2أي 3:21).

يقول التقليد الكنسي على لسان القديس الشهيد يوستين[4] (150م) عمَّا وصله من التقليد الأقدم، إن يوسف ومعه القديسة مريم لما بلغا بيت لحم لم يكن لهما فيها أحد، إذ كانا قد استوطنا الناصرة منذ زمن بعيد. فاتَّجها إلى الخان (المنزل أو النُزُل) katalÚmati (وهو اللوكاندة الريفية التي تستقبل المسافرين مع دوابهم). فلما لم يجدا في المنزل مكاناً التجآ إلى “المغارة” الملحقة والتي كانت مخصصة للدواب وباتا فيها. وهناك ولدت ابنها البكر وقمَّطته وأضجعته في المذود. ويعود العلاَّمة أوريجانوس[5] (185254م)، ويكرر نفس القصة كما استلمها هو الآخر من التقليد. فهي حقيقة متداولة في الكنيسة منذ البدء. ويقول العلاَّمة فارر[6] إنه في أيام القديس يوستين كانت هذه المغارة مزاراً باعتبارها مكان ميلاد المسيح. وقد شيدت الملكة هيلانة كنيسة فوق هذا المكان المقدس سنة 330م. وبعدها بقليل قام الإمبراطور جوستينيان الأول[7] (483563م) وبنى كاتدرائية كبرى على هذا المكان، ويُقال إن الكنيسة الحالية هي بقاياها أُعيد ترميمها. ويؤكِّد العلاَّمة يواقيم إرميا[8] أن تقليد الكنيسة بخصوص ميلاد المسيح في مغارة بيت لحم مبكِّر للغاية. كما يقرر هذا العلاَّمة أن الرعاة الذين ظهر لهم الملاك، وهم الذين كانوا يحرسون القطيع المخصص للذبائح الهيكلية، كانوا أنفسهم أصحاب هذه المغارة.

وعسير علينا أن نعبر على ميلاد المسيح في مذود للبهائم دون أن ينخطف قلبنا، ما هذا أيتها السماء؟ أهكذا لم يكن بين بني البشر في الدنيا قاطبة مكانٌ يستقبل جسد المسيح الغض إلاَّ مذود للبهائم!! نعم كان يتحتَّم أن يكون هذا!! حتى يتأهَّل هذا الجسد منذ اللحظة الأولى لدخوله العالم، لكي يسند ظهره في النهاية على خشبة الصليب كآخر مكان، وفي آخر لحظة له في العالم!! ليس من فراغ يقول المسيح: «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ.» (يو 33:16)، ولا كان تجاوزاً منه لما قال: «أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ.» (يو 16:17)، وقد عيَّر الله الشعب القديم: «وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي؟» (إش 1:66). وعاد في العهد الجديد يقول: «وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ.» (لو 58:9)

إذن، فليفرح وليعتزّ كل فقراء الدنيا، فلهم نصير وصديق في السماء عاش ومات فقيراً مثلهم، لم يملك عند دخوله العالم إلاَّ الخرق التي قمطته بها أمه، وأخرى ستروه بها على الصليب، وهو يستودع العالم لينطلق إلى مجده الأسنى، ليعدَّ ملكوته للذين غلبوا العالم: «وَهذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا.» (1يو 4:5)، «لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ.» (يو 16:17)  (يتبع)

——————————————-
[1] كيرينيوس هو Pubilius Sulpicius Quirinius. تعيَّن قنصلاً رومانياً سنة 12 ق.م، وتعيَّن والياً على سورية مرتين: الأولى، من سنة 64 ق.م؛ والثانية، من 69 بعد الميلاد، ومات سنة 21 بعد الميلاد.
[2] ونحن نقرأ في سفر الأعمال (37:5) عن اكتتاب آخر: «بعد هذا قام يهوذا الجليلي في أيام الاكتتاب وأزاغ وراءه شعباً غفيراً».
[3] وهو مجموعة الكواكب الثلاثة التي اجتمعت بحسب حسابات كبلر في مثلث “السمكة”، فاتَّحدت أنوارها معاً، وكان لمعانها شديداً.
[4] Justin, Contra Trypho 78:4.
[5] Origen, Contra Celsus 1:15.
[6] Farrer, Life of Jesus, ad loc.
[7] معروف أن أول عيد ميلاد (كريسماس) احتفل به العالم كان سنة 354م في روما وسنة 379م في القسطنطينية. أما في مصر فكانت وظلَّت الكنيسة القبطية تعيِّد أعياد الميلاد والغطاس وعرس قانا الجليل معاً تحت اسم أعياد الظهور الإلهي إلى وقت قريب. أما اختلاف تاريخ الميلاد عندنا إلى 7 يناير بدلاً من 25 ديسمبر عند الغرب، فهو نتيجة تعديل التاريخ الذي يُسمَّى بالغريغوري بفارق 13 يوماً.
[8] J. Jeremias TDNT, Vol. I, 490f.
—————————————————

للأستمرار في حديث القديس لوقا البشير عن ميلاد المخلص

↓↓ أضغط على الصورة ↓↓

نُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ــ الأب متى المسكين

Share this content:

إرسال التعليق

You May Have Missed