×

كيف سيدين المسيح المسكونة بالعدل (2) – الأب متى المسكين

كيف سيدين المسيح المسكونة بالعدل (2) – الأب متى المسكين

كيف سيدين المسيح المسكونة بالعدل (2)

الأب متى المسكين

matta-el-maskine10a كيف سيدين المسيح المسكونة بالعدل (2) – الأب متى المسكينرفع الحق عن الأشرار:

وبينما نجد الحق هنا يعرض نفسه علينا سهلاً رخيصاً، ولجميع الناس في كل حين، ويتمادى حاملوا هذا الحق وكأنهم يتذللون إلينا مستعطفين، لو نذوقه فنأخذه لأنفسنا مجاناً ونأخذه لنحيا به، وبينما يكادون يلاحقوننا في كل مكان ويتفننون في تبكيت ضمائر العصاة والخطاة بكل وسيلة وكل لغة، حتى يندم الخاطىء قبل فوات الأوان، نجد هذا الحق ذاته في يوم القضاء يقف وقفة مرعبة يطالب بثمن تذللاته السابقة، وكأنما قد خلع ثوب الشحاذة التنكري ليلبس ثوب القضاء ويجلس ليدين!

عجبي على هذا الحق الذي يقف الآن في كل زوايا الدنيا، يجذب إليه القلوب بالاتضاع واللين العظيم، كيف سيتوقف يوماً ليلبس وشاح قضاء لا يلين!

إنها خدعة الحرية التي تعارض إمكانية رفض الحق في هذا الدهر، لكي يمتنع هذا الحق عينه وإلى الأبد على الرافضين، حيث يكون الندم والبكاء بلا رجاء.

نماذج لشهود الحق:

لقد سبق المسيح وأعلن أن الأعمال التي كان يعملها يستطيع مَنْ يؤمن به أن يعملها ويعمل أعظم منها باسمه بواسطة الآب، وهكذا لم يترك المسيح الحق بلا شاهد على مستوى الحق ذاته أو على مستوى الديان: «الْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ الْعَالَمَ؟» (1كو 2:6). ومن أجل ذلك نفخ المسيح في تلاميذه من روحه، فصاروا شهوداً للحق: «فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ.» (أع 8:1)
وشهادة يسوع هي الحق، و «هِيَ رُوحُ النُّبُوَّةِ.» (رؤ 10:19)، وهكذا تلمذ الرسل للحق شهوداً في كل الأرض. هؤلاء هم النماذج الصالحة التي ستوجد مزكَّاة عن يمين الديان شهوداً للحق ومادة حية لقضاء الدينونة، وشهادتهم لا تكون بالكلام أو البرهان، ولكن بمجرد قيامهم ووجودهم مكرَّمين عن يمين الحق!

الأحكام التي سنُدان بمقتضاها:

والأحكام التي سنقف لنُدان بمقتضاها هي بذاتها التي تُتلى على مسامعنا كل يوم بإعلان واضح وبطرق ووسائل عديدة متنوعة. فكلمة الله المكتوبة والمقروءة تأتي إلينا كل يوم تحمل الحق ترغيباً وقضاءً معاً، بقوة زاخرة قادرة مقتدرة كسيف ذي حدين يستطيع أن يخترق كل أغلفة العالم الكاذبة لتبلغ القلب الذي يطيعها لو أراد!

وصورة المسيح مصلوباً تبكيت متواصل للمدمنين على الخطية والعصيان، فكأنما الجسد الممزق على الصليب يشرح درس الدينونة بصمت رهيب يستطيع أن يحطم الأرض والسماء، لأن ثمن الخطية استلزم موت القدوس، فكم سيكون عقاب من استهان بالثمن!؟

أما الأنبياء والرسل والشهداء والقديسون، فهم النموذج المشجع للمتشككين، فقد قدموا حياتهم على مذبح الحب والطهارة رخيصة، واستهانوا بالعالم والجسد وداسوا كل قوة العدو المعاند، وعبروا بهدوء وضياء. والعِبَر التي تذخر بها أجيال السابقين واللاحقين والتي تقع تحت بصر كل إنسان من بؤس الخاطئ، وسعادة المؤمن، وعدم راحة الأشرار وانزعاجهم، وسلام الأبرار وطمأنينتهم، واحتقار المتعظمين وتزكية المتواضعين، وافتضاح كل السائرين في طرق الكذب والخداع، ونجاح المتمسكين بالحق والاستقامة, كل هذه وألوف غيرها من الملاحظات التي يلمحها الضمير بالا عناء – تقف الآن في هذا الدهر تعلن إعلاناً عن صدق كل مواعيد الحق والبر والتعفف. فإذا أخذنا بها وسرنا بمقتضاها، صارت هي بجملتها عزاءً لنا في الزمان الحاضر وإكليلاً معدًّا هناك في الدهر الآتي.

أما إذا تنكرنا لها واستثقلناها وأهملنا وازدرينا بوعودها، فإننا نفقد عونها وكرامتها في هذا الزمان، وتصير هي بذاتها مادة للدينونة المخيفة والعقاب الأبدي الذي يُطاق.

اتصال الدينونة بالحياة الحاضرة:

ليست الدينونة حالة منفصلة عن الحاضر، وكأنها أعمال ما بعد الموت. ولكن الحقيقة المرَّة أن الدينونة تبدأ تنسج خيوطها في حياتنا منذ الآن، وتسجل علينا أقوالنا وأعمالنا ونياتنا لتسبقنا إلى هناك.
فالذي يُقبل إلى الحق من الآن، يثبت الحق فيه ويحرره، وفي الدينونة يجذبه إليه ويحميه ويشهد له.
والذي يرفض الحق هنا يتعبد للباطل قهراً، وفي الدينونة يصير غريباً عن الحق ولا يستطيع أن يقبله أو يقترب إليه بل ينشأ نفور متبادل.
فالذي يسير في نور الحق، يتجدد للمعرفة ويأخذ منذ الآن ملامح صورة خالقه في البر وقداسة الحق: «وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ.» (أف 24:4), ويؤهَّل للتبني، وتنفتح عيناه على النور الأبدي. أما في الدينونة، فيلتحم بالنور ويتأهل لدينونة ملائكة الظلام: «ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة.» (1كو 3:6)!!
أما الذين أحبوا الظلمة أكثر من النور وارتبكوا في ملذات هذا الدهر وشهوات الباطل، فإن عيونهم تخفق أن تتحسس نور الحياة، وقليلاً قليلاً تنعمي أبصار قلوبهم فلا يعودون يَرَوْن الحق ولا يميلون إليه، هؤلاء يصيرون في يوم الدينونة كالأعمى مريض العين الذي لا يطيق شعاع النور، هؤلاء يهربون إلى الظلمة الخارجية.
والذي أحب المسيح وقَبِلَ كلمة الحياة الأبدية في هذا الدهر، يثبت في المسيح، والمسيح يعلن له ذاته، حيث يبذر فيه بذرة الخلود ليصير كمولود جديد من الروح والحق، ويقوم في اليوم الأخير لميراث التبني في الحياة التي انبتَّت منذ الآن في كيانه!

أما الذي ازدرى هنا بالحياة الأبدية، فيصبح بالنسبة لها ميتاً، لا يكاد يصدق بوجودها، وفي الدينونة تعود تعمل فيه هذه الحياة الأبدية بمواهبها اللانهائية!

وهكذا نرى أن الدينونة هي تكميل عادل واستمرار طبيعي لنوع الحياة التي سرنا فيها وصنعناها لأنفسنا سابقاً في هذا الدهر، إنما بانتقال فائق من الأقل إلى الأعظم، من نور الوصية إلى نعيمها.

موقف الأشرار:

حينما يقوم الأشرار للدينونة، يستيقظ فيهم وعي الحياة السالفة بلا نسيان مع استعلان الحق الإلهي بان واحد. حينئذٍ يصيرون في رعب عظيم من الحق الذي يبدأ يبكَّت رياءهم وكذبهم، ومن النور الذي يفضح أعمالهم ويوبخ نجاساتهم ويعيَّرهم بانغماسهم في شهواتهم الفاسدة، أما الروح الذي كان يعمل فيهم للإنذار والتبكيت، فيبدأ يشهد عليهم علناً أنهم بنو ظلمة وأولاد لعنة، مدعوون للهلاك!

ومع أن الجالس على العرش لا يزال هو الخروف الوديع القائم كأنه مذبوح من أجل الخطاة، والحبيب الذي لا تزال تنبعث من عينيه الرحمة والمسرة والحنان من أجل كل بني الإنسان، إلا أن رحمته لا يعود الأشرار يرون فيها إلا نوعاً من الفرص الضائعة التي انبرت عدوًّا للتبكيت، يحمل لهم استعلان غضب عظيم. أليسوا هم الذين أهانوا الرحمة في زمن الرحمة؟ لذلك فهم لا يكفون عن الصراخ طلباً للخروج من حضرته، لأن نجاساتهم تمنعهم من احتمال البقاء في حضرة قدسه، ويطلبون بإلحاح أن يؤذن لهم بالخروج، حيث الظلمة الخارجية تكون حالة أكثر احتمالاً من نور حضرته. أما هو، فمن أجل الرحمة يأذن لهم بالذهاب عنه، حيث الظلمة الخارجية وصرير الأسنان…

وإن كان شعب إسرائيل المختار لم يطقْ أن ينظر وجه موسى حينما خرج من لدن الله، وقد انعكس نوره الإلهي على وجهه، فكم تكون حالة أبناء الظلمة حينما يوجدون قسراً في مجال نور وجه الديان؟!

وإن كانت الشياطين قد صرخت من هول استعلان الله في هيكل جسده الضعيف، فكم تكون حالة أولاد إبليس حينما يظهرون أمام الله في مجده كديان؟!

وإذا كان إسرائيل الذي تقَّدس واستعد لملاقاة الله لم يستطع سماع صوت الله واستعفى من الكلام الذي أرعبه جداً، فكم تكون حالة الخطاة وهم بعد في نجاساتهم، حينما يؤخذون بغتة، ويسمعون صوت الجالس على العرش؟

من أجل هذا سيكون استعلان المسيح، حتى وهو في حالة مجده، مرعباً جداً بالنسبة للذين لم يتوبوا وأخذهم الموت بغتة.  (يتبع)

————————————
الجزء الثاني: من نص خطاب أُرسله الأب متى المسكين لأحد الإخوة عام 1958م
——————————

لمتابعة خطاب الأب متى المسكين – الجزء الثالث

↓↓ أضغط على الصورة ↓↓

كيف سيدين المسيح المسكونة بالعدل (3) – الأب متى المسكين

Share this content:

إرسال التعليق

You May Have Missed