×

كُن أميناً – دكتور جميل نجيب سليمان

كُن أميناً – دكتور جميل نجيب سليمان

كُن أميناً – دكتور جميل نجيب سليمان

كُن أميناً، كيف؟
ليست الأمانة أمراً هيِّناً نبلغه وحدنا إن أردناه. وإبليس من جانبه يجعل الأمانة في عالمنا، روحياً واجتماعياً، أمراً عسيراً مُرهقاً، والعدو يُحاصر مَن يُنشِدون الأمانة بالتجارب والكراهية والظلم والشكاوي الكيدية، وربما بالإدانة بينما يفلت المجرمون الحقيقيون، كي يفقد الأمناء حماسهم. كما أنهم وهم يَرَوْن نجاح الأشرار وتقدُّمهم في العالم، قد يُداخلهم الشك في عدالة الله، حتى أن إرميا نفسه تساءل متحيِّراً: «لماذا تنجح طريق الأشرار» (إر 12: 1).

نعم، اقتناء الأمانة والنمو فيها ليس هو في الأساس عملاً بشرياً، وإنما هو عمل من أعمال النعمة. والقديس بولس يشير إلى رحمة الله وراء أمانته الموهوبة، فيقول: «… كمَن رحمه الله أن يكون أميناً» (1كو 7: 25)، «… ربنا الذي قوَّاني أنه حسبني أميناً» (1تي 1: 12). كما أن أمانة الرب تظل هي النموذج والقدوة لكل مَن يتطلَّع إلى تنفيذ الوصية: «كُن أميناً» (رؤ 3: 10).

على أن هناك بالطبع، وبصورة عامة، جانباً إرادياً في تبعية الرب والإيمان به والنمو في حياة القداسة. فالروح يعمل في النفس المُستجيبة، أما النفس المُقاوِمة فلا يتصدَّى لها الروح إلاَّ استثناءً (إن كان يعرف أنها إناء مختار له فيُنقذها من عنادها، كما كان الحال مع شاول/بولس – أع 9: 15). والإنسان خُلِقَ حُرّاً كي يقبل تبعية الله بملء إرادته وليس قسراً، وهكذا يقتبل نعمة الله المُخلِّصة (تي 2: 11)، وينال المجازاة في اليوم الأخير.

ومن هنا فوصايا الكتاب تُخاطب إرادة الإنسان أولاً، ومتى استجاب فهذا يعني أن الإيمان هناك والنية متوفرة، والله مِن ثمَّ يقود بنعمته هذه النفس الطائعة إلى البرِّ، ويتقدَّم بها من مجدٍ إلى مجد، وهذا واضح في الوصايا المختارة التالية:

«تحب الرب إلهك…» (تث 6: 5؛ لا 19: 18؛ مت 22: 27؛ مر 12: 30؛ لو 10: 27)؛ «مَن أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكُن لكم خادماً. ومَن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكُن لكم عبداً. كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت 20: 26-28؛ مر 10: 43-45)؛ «إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه… مَن أراد أن يُخلِّص نفسه يُهلكها…» (مت 16: 25،24؛ مر 8: 35؛ لو 19: 24)؛ «تواضعوا تحت يد الله القوية…» (1بط 5: 6)؛ «اشترك أنت في احتمال المشقَّات…» (2تي 2: 3).

ورغم أن الله «يريد أن جميع الناس يخلصون» (1تي 2: 3)، إلاَّ أنَّ إخفاق الإرادة في الانصياع لصوت الله يُعطِّل خلاص النفس، وهذا واضحٌ في صيحة الرب لإسرائيل قبل ارتفاعه على الصليب: «يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المُرسلين إليها، كم مرة أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً» (مت 23: 37). فهو أراد خلاصهم وهم لم يُريدوا، فلم ينالوا شيئاً سوى الخراب.

فإذا جئنا لتطبيق ما سبق على الموقف من الأمانة؛ فالمطلوب، إذاً، أن نقابل نعمة الأمانة بالانحياز لها طاعةً لصوت الله، وأن نرفض وقت الخيانة وقت التجربة، واثقين أن الله يسمع ويرى وستأتي المعونة من الأعالي.

الأمانة تـنبع تلقائياً من الإيمان الصادق ومحبة الله. المؤمن الحقيقي يلتصق بالسيِّد ويظل أميناً له، حافظاً لوصاياه، وتصبغ الأمانة كل مجالات حياته الروحية والنفسية والاجتماعية بغير افتعال أو تغصُّب. بغير الإيمان الحيّ لا توجد أمانة أو التزام. الذين حُرموا من الرعاية والتعليم والقدوة الصالحة، لا تمثِّل لهم علاقتهم بالمسيح – التي ورثوها من آبائهم دون أن يختبروها – شيئاً ثميناً، وبالتالي يسهل عليهم التخلِّي عن مسيحهم والانسحاب من الكنيسة تحت إغراء المال أو الزواج أو الفرار من سوء معاملة العائلة. بغير الإيمان الحي تفتقد العبادة والخدمة والتعليم حرارتها وتتحوَّل إلى الشكلية وخدمة الذات، وتصير الحياة جسدية، وتشتعل الحواس بالشهوة، وتُستخدَم المواهب لخدمة العالم، ويصبح الغِنَى وجمع المال هو غاية المُنَى، وتتراجع من المشهد صورة الأبدية.

نعم، تبدأ الأمانة محدودة، ولكن مع النمو الروحي والنفسي والثبات في طريق القداسة، تنمو الأمانة أيضاً، وتنعكس في التصرُّف والكلام والسلوك، وبمعونة النعمة تتأصَّل دون تراجُع مهما تَكُن العواقب.

+ هناك عاملان يدعمان تمسُّك المؤمن بالأمانة وعدم الارتداد عنها: أولهما، مخافة الله؛ وثانيهما، الصبر.

وكلما تأصَّلت مخافة الله في القلب (والتي لا تتعارض مع محبتنا له ودالتنا عنده كأبينا السماوي، والتي تقتضي في ذات الوقت توقيره وخشيته وتصاغُرنا أمامه كضابط الكل الذي معه أَمرُنا)، كلما صارت الأمانة هي التوجُّه التلقائي في كل المواقف. فالأمانة ومخافة الله صنوان لا يفترقان. ونحميا أقام حنانيا رئيس القصر على أورشليم لأنه كما يُسجِّل الكتاب: «كان رجلاً أميناً يخاف الله أكثر من كثيرين» (نح 7: 2).

مخافة الله تستحضر الله معنا كل الأيام وفي كل الظروف: تُصدِّق على وعده (مت 28: 20)، وتضبط كل أعمالنا وتصرفاتنا لتتفق مع قصده، وهي رأس الحكمة والمعرفة عند الملكَيْن داود وسليمان (مز 111: 10؛ أم 1: 7)، لأنها تعني أن الإنسان يُدرك هيمنة الله – الذي يرى في الخفاء – على كل الوجود بمَن فيه نفس الإنسان وكل ما يعمله، وهذه قمة الحكمة والمعرفة، بما يحفظ نفس الإنسان من الشطط أو الانسلاخ من الوصية، ويضمن أن تسود الأمانة والالتزام كل جوانب الحياة.

أما عن الصبر، فهو بصورة عامة عنصر أصيل في الحياة الروحية المسيحية، وهو يقترن في آيات الكتاب وفي الواقع العملي، بالإيمان والرجاء والمحبة والعمل الصالح والجهاد واحتمال الآلام والضيقات (رو 2: 7؛ 12: 12؛ 1تس 1: 3؛ 1تي 6: 11؛ 2تي 3: 10؛ تي 2: 2؛ عب 10: 36؛ 12: 1؛ يع 1: 3؛ رؤ 2: 19،2).

فمن الطبيعي، إذاً، أن يكون للصبر دوره في مساندة الجهاد للتمسُّك بأمانة الحياة خاصةً مع المقاومة التي لا تهدأ من الجسد والعالم ورئيسه إبليس. وإذا كانت الأمانة في الأساس هي نعمة من الله، فالله يهب معها أيضاً الصبر للصمود في معارك الأمانة مع قُوَى الظلام، كي يتواصل الجهاد والمقاومة المضادة ساعة التجربة، حتى تعبُر المحنة ويتمجَّد الله: «لأنكم تحتاجون إلى الصبر حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد» (عب 10: 36)، «هنا صبر القدِّيسين (وإيمانهم). هنا الذين يحفظون وصايا الله وإيمان يسوع» (رؤ 13: 10؛ 14: 12). الانهيار السريع هو شهوة عدو الخير، والمؤمن الملتزم لن يُتيح له هذه الفرصة بالصمود صابراً صبراً راسخاً (1بط 5: 8)، والاستناد على صاحب الذراع الرفيعة الذي يُنادي: «ادعُني في يوم الضيق، أُنقذك فتُمجِّدني» (مز 50: 15)، و«تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكمَل» (2كو 12: 9)، والذي يُطالبنا بالأمانة «إلى الموت» (رؤ 2: 10).

+ من الأهمية بمكان أن نتبيَّن، في نور الصلاة وعلى هَدْي الكلمة، مواطن الضعف في كل جوانب حياتنا الروحية والنفسية والجسدية أولاً بأول، كي نتعامل معها ونشهرها خارجاً، تائبين عنها بمساندة روح القداسة؛ وأن نجعل التوبة اليومية والارتباط بآباء ومرشدين مختبرين اتجاهاً حياتياً أصيلاً؛ وأن نحرص أن نكون قدوة تُمجِّد الله في مجتمع الكنيسة والعالم.

+ إن التزامنا بالأمانة يُحقِّق مصالحتنا مع الله ومع النفس، فيسود السلام حياتنا، ولا يجد العدو الجائل من حولنا ثغرة لكي ينفذ منها لتلويثنا والإيحاء بفشلنا وهزيمتنا، وبالتالي الكفّ عن الجهاد لأنه بلا طائل. وحتى إن نجح إبليس مرة، فليس هناك غير أن نُقاومه «راسخين في الإيمان» (1بط 5: 9)، ولا نُعطي له مكاناً (أف 4: 27).

+ في مجالات العمل ربما ينجح (بحسب مقاييس العالم) مَن لا يلتزمون بالأمانة، فيجمعون الأموال والممتلكات، ويحصلون على الشهرة والمواقع الأولى في مجتمع الفساد. وقد يضيق بنا غير الأمناء لأن أمانتنا تكشفهم وتدينهم، وربما اجتهدوا أن يُوقعوا بنا، وعلينا ألاَّ نخاف ونثق في حماية إلهنا الذي «يبقى أميناً لن يقدر أن ينكر نفسه» (2تي 2: 12)، وألاَّ نرى فيما يسود مجتمع العالم مُبرِّراً للخروج عن مقتضيات الأمانة أو مشاركة الأشرار انحرافاتهم لتفادي شرهم، أو باعتبار أن المجتمع فاسد وأن أمانتنا لن تُغيِّره، أو تحت ضغوط الأحوال المعيشية الصعبة. هذا لن يكون طريقنا بأي حال، لأن كلمة الله واجبة الطاعة، وسلوكنا بالأمانة هو لحساب الله لا الناس ولو بقينا وحدنا؛ ومن الله لا من العالم نتوقَّع المجازاة، و«إن كان الله معنا فمَن علينا» (رو 8: 31).

والفتية الثلاثة الذين رفضوا وحدهم السجود للتمثال، وكان أن أُلقي بهم في أتون النار، لم تمس النار شعرة من رؤوسهم أو ثيابهم، وتمجَّد الله بهم، وارتفعت مكانتهم أكثر عند نبوخذنصَّر الملك (دا 3). وبالمثل فدانيال المتمسِّك بالصلاة إلى الله وليس للملك، طُرِحَ في جُب الأسود عقاباً له، ولكن الله «أرسل ملاكه وسدّ أفواه الأسود» (دا 6: 22)، والذين أوقعوا به صاروا هم طعاماً للأسود. كما لا ننسى أن عدم الأمانة طريق الهلاك و«نحن لسنا من الارتداد للهلاك، بل من الإيمان لاقتناء النفس» (عب 10: 39).

+ لا توجد آية صريحة عن مكافأة الأمانة كتلك التي اتخذنا بدايتها عنواناً لهذا المقال: «كُنْ أميناً إلى الموت، فسأُعطيك إكليل الحياة» (رؤ 2: 10)، وهي كانت في أصلها موجَّهة من الرب إلى ملاك كنيسة سميرنا (أزمير) الذي تُحاصره الاضطهادات والآلام ومقاومة العدو الحادثة والقادمة؛ ولكنها تبقى على مدى الأيام وعداً إلهياً دائماً لكل مَن يريد أن يكون أميناً دون تحفُّظ وإلى الموت.

و«إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه» (يع 1: 12)، مَن ظلُّوا أمناء واحتملوا التجربة فتزكّوا، يبقى دوماً في آفاق حياتنا الروحية، حاثّاً على المثابرة والصمود والسير في الطريق إلى نهايته، وهو بصورةٍ ما يُشبه ”نجم المشرق“ الذي اهتدى به المجوس حتى وصلوا إلى مكان ميلاد السيِّد. ويظل الوعد داعماً لأمانتنا، والإكليل مُعزِّياً لنا في ضيقنا الحاضر، حتى نلتقي بالآتي على السحاب واهب الإكليل.

 

+ + +

إذا كان نصيب الأمانة في الدهر الآتي ”إكليل الحياة“، فهي هنا علامة حيوية الإيمان، وسر نجاح الخدمة، وانتعاش الحياة الروحية، وطهارة الحواس، وافتداء الوقت، وأساس العلاقات الناجحة في العائلة ومع الأصدقاء وفي المجتمع، ووراء التوفيق في الدراسة والعمل.

وإذا كان الخبراء في التربية الحديثة يُركِّزون على الأمانة كمفتاح للنجاح في العالم، فهي في الحياة المسيحية اللؤلؤة كثيرة الثمن التي تستحق التعب لاقتنائها، فجائزتها ”إكليل الحياة“ أي «نكون كل حين مع الرب» (1تس 4: 17).

دكتور جميل نجيب سليمان

 

Share this content:

إرسال التعليق

You May Have Missed