×

خوف عظيم وفرح عظيم ــ الأب متى المسكين

خوف عظيم وفرح عظيم ــ الأب متى المسكين

خوف عظيم وفرح عظيم

الأب متى المسكين

تفسير لقصة الميلاد من إنجيل معلمنا لوقا البشير ــ الإصحَاحُ الثَّانِي (الجزء الرابع)

maxresdefault-1 خوف عظيم وفرح عظيم ــ الأب متى المسكينأول بشرى للميلاد تلقَّاها رعاة ساهرون:

8:2 «وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ».

يقول العلاَّمة إدرزهايم اليهودي المتنصِّر الذي كتب حياة المسيح بالتفصيل إنهم فئة من الرعاة مختارين بشروط خاصة من جهة الطهارة والتطهير، يحرسون قطعان الغنم المخصصة للذبائح الهيكلية. وهناك نبوَّة سجَّلها ميخا النبي تقول إن من برج القطيعالواقع على أكمة جبل صهيون (وهو يُرى على طريق بيت لحم) يأتي من يملك ويحكم: »وأنتَ يا برج القطيع أكمة بنت صهيون إليك يأتي، ويجيء الحكم الأول مُلك بنت أورشليم.« (ميخا 8:4)

والقارئ يُلاحظ أن النبوَّة على المسيح منصبَّة على مجيئه من قِبَل بنت صهيون تعبيراً عن ميلاده من العذراء.

كذلك فإن أحد كتب التراث اليهودي([9]) يقول إن من على برج مجدال عيدر أي برج القطيع في بيت لحم سيُعلن ميلاد المسيَّا، وهذا البرج يقع على الطريق بين بيت لحم وأورشليم. وهذا ما تم بالفعل إذ ظهر هناك الملاك الذي كلَّم الرعاة.

ولكن لا يمكن أن يفوت على القارئ الملهم، العلاقة السرية ذات المغزى والمعنى، أن أول بشارة بميلاد »“حمل الله الذي يرفع خطية العالم« (يو 29:1) يفوز بها رعاة ذبائحالهيكل من الحملان! بل ويولد حملالله في مذود؟ إنها تُحسب صرخة من الوحي المقدس في أُذن القارئ الموهوب وكأنها إصبع تشير كما أشارت إصبع المعمدان: »هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم« بل ولا يخلو هذا الحبك الإلهي في الرواية ذات الأسرار، لماذا للرعاةيُستعلن الحمل؟

هذه الإشارة أخذتها الكنيسة المرتشدة بالروح وأسمت كهنتها بـ الرعاة، وكأنهم المؤتمنون على سر الحمل يقدِّمونه كل يوم على المذابح ليُشبعوا الرعية!

9:2 «وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً».

الليل ليل شتاء، وظلمة الشتاء ثقيلة، وأي بصيص نور يجذب الأبصار، فما بالك بنور مجد الله بضياء يملأ السماء والأرض على مستوى البرق، وفي لحظة يلفُّهم النور وكأنهم صاروا في بؤرة الشمس بلا حرارة. فأي خوف يتحتَّم أن يعتريهم؟ وهم رعاة سُذَّج. ولكن الذي يسترعي أبصارنا نحن أن يكون هذا ضياء مجد الرب نفسه، وهو نفسه ملقى هادئاً في المذود يلفُّه قماط!!! وتم القول: »الذي نزل من السماء (إلى الأرض)، ابن الإنسان الذي هو في السماء« (يو 13:3). مَنْ يفهم ومَنْ يصدِّق ومَنْ يسبِّح؟ أليس هذا المنظر فيه ما يفك أُحجية التجسُّد؟؟ على المستوى العلني والمنظور.

10:2 «فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ».

خوف عظيم”، و«فرح عظيم»:

أليس هذا هو الإنجيل أي البشارة المفرحة جداً؟ أول مَنْ فسَّره ملاك، وأول مَنْ سمعته آذان رعاة! واللغز هنا بديع، فالبشارة للرعاة، والفرح للشعب، وما على الرعاة إلاَّ البلاغ. وكأنه في مخافة عظيمة جداً يتقبَّل الرعاة البشارة لينقلوها مفرِّحة لجميع الشعب. وهكذا فأول مَنْ سمع البشارة ورأى المولود هم الرعاة، إن في هذا تناسقاً بديعاً.

ولكن نقطة التركيز في هذه الآية أن البشارة بالميلاد فيها فرح عظيم، وكم مرَّة عيَّدنا للبشارة ولم نفرح؟ بل وكم مرة قرأنا وسمعنا البشارة ولم نفرح؟ إن في هذا إشارة إلى عطل في السمع والفكر في تقبُّلنا لأعمال الله وأسراره، لنا آذان لا تسمع! إن الفرح العظيم الذي يكون لجميع الشعب انطلق من الميلاد ليؤسِّس دعامة في قلب الإنسان لا يمحوها الزمن، ارتفعت عالياً يوم القيامة لتنهي عهد شقاء الإنسان إلى الأبد: »أُبشِّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب كل الأيام.«

11:2 «أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمْ الْيَومَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ».

هذا هو “الفرح العظيم”، يقول الملاك: »أُبشِّركم بفرح عظيم… أنه وُلد لكم مخلِّص« نقول تعليقاً على قول الملاك: “الفرح قد وُلِد في أرواحنا وليس في جسدنا. والجسد يموت ويبقى الفرح العظيم نحمله معنا إلى السماء، فلا الموت ولا الحزن ولا العالم يقدر أن يلغي فرحنا. فرحنا في روحنا، فهو بمنأى عن أتعاب هذا الدهر. يشقى الجسد ويمرض ويتألم جداً وطويلاً، ولكن يبقى فرحنا غالباً. المسيح قام، والمسيح لن يموت بعد، وهكذا فرحنا لن يموت إلى الأبد.

هنا دخلت الرواية التاريخ رسمياً، وابتدأ للتو العدّ التصاعدي للصليب. فليس اعتباطاً أن يقرن الملاك المولود بـ الخلاص. فيوم الرب هو يوم الخلاص بكل تأكيد. فإن كان قد وُلد يسوع حسب تسمية الملاك ليوسف سابقاً؛ فهو، بآن واحد، مسيَّا الله القادم بالخلاص على كتفيه: »لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم.« (مت 21:1)

عيني على الطفل المقمَّط في المذود كيف وُلِد ليُصلب؟ إذ حمل هذه الألقاب جميعها من فم الملاك: “مخلِّص هو المسيح الرب.

أما فرحة الرعاة بالحمل المولود، فلأنه سيعفيهم من رعي الغنم لحساب الهيكل ومن سهر الليالي في شتاء بيت لحم القارس، فقد قدَّم نفسه عوضاً عن جميع خرافهم مرة واحدة لخلاص العالم كله. فليقفل الهيكل أبوابه ويسرِّح رعاته مع قطعانهم!!

12:2 «وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ».

وكما أَوحى ملاك البشارة للعذراء القديسة لزيارة أليصابات كونه أعطاها مثلاً لتتأكَّد منه على أنه ليس شيءٌ غير ممكن لدى الله، فهو كما يعطي العاقر ولداً يعطي العذراء حَمْلاً؛ هكذا ملاك الرعاة أعطاهم العلامة: طفلاً مقمَّطاً موضوعاً في مذود وعلى قيد خطوات من مركز سهرهم! فقاموا كما قامت العذراء وأسرعوا، وكان قصد الملاك على المستوى الأعلى أن يروا المسيَّا رؤية العين ويقين اللمس: »الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة«!! (1يو 1:1)، حتى إذا رأوا ولمسوا وتحققوا، يذيعون خبرتهم هذه التي بالعين واليد: »وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظْهِرَت لنا (طفلاً في مذود)« (1يو 2:1). وهكذا صار الرعاة أول الشهود وأول الرسل. ولكن كان الملاك بادئ كل ذي بدء عاطفاً أشد العطف على تلك العذراء الوالدة، فأراد أن يفرِّح قلبها بأعظم شهادة تجيئها في منتصف الليل من فم الرعاة، كما رأوا في السماء وسمعوا أن الذي في حجرها تسبحه الملائكة، وهو حقاً المسيَّا والمخلِّص.

«تجدون طفلاً مُقمَّطاً مُضجعاً في مذود»:

منظر لفقر الابن الذي بلغ أقصى قراره، معطياً صورة منظورة لسرِّ الإخلاء من أمجاده غير المنظورة. فالذي هو في صورة الله في البهاء والمجد، أخلى ذاته ليظهر مستضعفاً هكذا في صورة عبد‍‍!

عجيب وليس عجباً، أن الذي خلقنا على صورته، يعود ويأخذ صورتنا لنفسه، لكي بنفسه يفدي الصورة التي خلقها!

عظيم السموات ارتأى أن يُلفَّ بالخرق، لأن الذي هو في حضن الآب اشتهى أن يحتضنه مذود!

مروِّع للذهن جداً انحدار الابن من سماواته العُلا إلى تراب الأرض وطين المذود.

فأدركنا وارتعبنا أن هذا هو المعادل لانحدار الإنسان من البرارة أمام الله إلى حضيض العصيان وطين الخطية.

وما كان المذود إلاَّ توطئة لتمزيق ذات الجسد على خشبة العار، ثم إسناده إلى ظلمة القبر ميتاً.

ولكن هي محبة الآب التي أحدرته إلى عالمنا، لكي بميلاده لنا يلدنا له، وليمحو بعاره عارنا، ويلغي بموته موتنا، وببره يبرِّرنا!!

13:2و14 «وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ.»

ثلاث تسبيحات على مستوى الثلاثة تقديسات، لأن سرَّ اللاهوت انفتح على عالمنا.

هنا بحسب اللاهوت: إعلان (إبيفانيا) ™pif£neia واستعلان إلهي (ثيوفانيا) qeof£neia معاً. أما الإعلان فبيد ملاك هو ملاك الرب الخاص حاملاً إعلاناً من الله للرعاة، وأما الاستعلان فهو استعلان الله نفسه الذي سبق وعبَّر عنه القديس لوقا بأن » مجد الرب أضاء حولهم « بهذا نفهم الفرق بين الملاك وجمهور الجند؛ فالملاك مُرسَل من الله، أما جمهور الجند السمائي فهم خُدَّام العرش المحيطون بالرب يظهرون لحظة استعلان الرب أو ظهوره، وهنا استعلان في السماء وظهور على الأرض!!

لذلك يُلاحظ هنا أن التسبحة بدأت أولاً بـ المجد لله، وهو صراخ الذُكصا كإعلان تسبيحي لحضور العظمة في ملء السموات العُلا فوق الصبي! أما السلام على الأرضفهو لنزول رب السلام لحظة لمس جسد المولود أرض الشقاء ليملأ أرضنا سلاماً لا يُنزع منا إلى الأبد؛ وأما في الناس المسرَّة، فلأن مصدر السرور والفرح الإلهي أخذ لحماً من لحمنا وتجنَّس بجنسنا، ولن ينزعنا عنه إلى الأبد. فيا لسعدنا بالذي وُلد لنا. وهل يُعقل أن يُولَد لنا ولد ونُعطى ابناً هو من السماء وليس من أرضنا، والله أبوه أرسله إلينا ليحملنا إليه؟

كان لابد للملائكة أن تترنَّم في السموات العُلا وتردد صداها الأرض إلى الأبد. فالقدير صنع بنا عظائم، وأحزان البشرية أشرق عليها سلام وفرح!   (يتبع)

——————————-
([9]) Targum Pseudo-Jon. on Gen. 35:21.
——————————————————-

لمتابعة تفسير أنحيل القديس لوقا

(الجزء الخامس) الخاص بميلاد المخلص 

↓↓ أضغط على الصورة ↓↓

نُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ــ الأب متى المسكين

Share this content:

إرسال التعليق

You May Have Missed