×

موقف المسيح من الناموس _ الأب متى المسكين

موقف المسيح من الناموس _ الأب متى المسكين

www-St-Takla-org-Damiana-Monastery-icon-Sermon موقف المسيح من الناموس  _ الأب متى المسكينإنجيل القديس متى قد أعطى مكاناً لتأكيد قيام ودوام الناموس بأعتباره كلمة الله: إنجيل القديس متى ص 5 ” لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ. (مت 17:5-20)

المسيح هنا يركز على روح الناموس الذي أبرزته الوصايا العشر, التي وضعت أساس علاقة الإنسان بالله من تكريم كلي, وأساس علاقة الإنسان بالإنسان من أحترام وعدم تعدي, وهي تُعتبر أصل وروح كل قانون ظهر في العالم ليقيم علاقات الإنسان بالله والناس.

بهذه المقدمة أبتدأ ق. متى يسجَّل عظة المسيح على الجبل, على أن أساسها هو أكتشاف روح الناموس فيها: إنجيل ق. متى:  قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. (مت 21:5-22)
هنا نحن أمام الناموس وفي مقابلة الإنجيل, الناموس يقول لا تقتل, والأنجيل يقول لا تغضب. هنا الناموس يحكم بالموت على القاتل ولا يقدم له أي علاج, في حين الإنجيل يتخطى الأمر بعدم القتل إلى معالجة علَّته بأعطاء وصية عدم الغضب وبالتالي يتحاشى عقوبة الموت, وكأننا انتقلنا بالخاطئ من محكمة العقوبات إلى بيت أبوي, ومن تحت المقصلة إلى حضن نصوح. وهذا هو الأنتقال من الناموس إلى الإنجيل.

وهكذا أخذ المسيح يسرد الوصايا ليستخرج منها روحها ويعلنها بوجه جديد يتناسب مع روح العهد الجديد.

كذلك عاد في الأصحاح (23) يقول: “ حِينَئِذٍ خَاطَبَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَتَلاَمِيذَهُ قَائِلاً: «عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ، فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ، وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ. فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ، وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ، وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ: ….. “ (مت1:23-5)

وهنا أبتدأ المسيح يفرز بين نصوص الناموس وبين الفتاوي والتعاليم المكمَّلة من عندهم, التي أسماها المسيح: أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل و تعاليم هي وصايا الناس (مت9:15)

بهذا التعليم الأولي جداً بدأ المسيح خدمته التعليمية تمهيداً للدخول في ما هو أكمل, الذي أعتبره البر الحقيقي وليس البر بالناموس: إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ. (مت 20:5) وهو البر غير القائم على التدقيق في الأعمال بل المستمد من روح الله. لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. (مت21:7).

وأعطى المسيح صورة لروح الناموس في وضعه الأساسي عند الله فيما قبل موسى عندما قال: وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى؟ وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ». (هنا قول المسيح الذي جمعه الله هو أصل الناموس وروحه وهو إرادة الله من نحو حياة الإنسان) قَالُوا لَهُ: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَق فَتُطَلَّقُ؟» قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ.” (وهنا قول المسيح من أجل قساوة قلوبكم هو من صميم “الناموس” الذي وضع ليناسب قساوة قلوب الشعب). (مت3:19-8).

وهكذا أبتدأ المسيح يسحب التعبُّد الأعمى للناموس لإتباع تعاليم المسيح  التي هي أصل وعلّة وضع الناموس, وهو الأتباع والألتصاق بالله نفسه عن طريق الإيمَان بالمسيح وتعليمه, ثم الإيمان بإنجازاته التي حررت الإنسان من الحرف الذي يقتل إلى الروح الذي يحيي, الذي وصل إليه ق. بولس بعد عراكه مع الناموس.

+ “إِذًا النَّامُوسُ مُقَدَّسٌ، وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ. فَهَلْ صَارَ لِي الصَّالِحُ مَوْتًا؟ (لأن الناموس يحكم بالموت) حَاشَا! بَلِ الْخَطِيَّةُ. لِكَيْ تَظْهَرَ خَطِيَّةً مُنْشِئَةً لِي بِالصَّالِحِ مَوْتًا، لِكَيْ تَصِيرَ الْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدًّا بِالْوَصِيَّةِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ النَّامُوسَ رُوحِيٌّ، وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ. (رو12:7-14).

وهكذا جاء المسيح ليرفعنا من تحت الخطية التي هي السبب في مجئ الناموس, فلمَّا رَفعَ المسيح الخطية بطلت قوة الناموس وبطلت أحكامه بالموت.

+ “إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ. لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ. (رو 1:8-2).

هكذا استطاع ق. بولس أن يلقن للقديس متى النقلة التي انتقل بها المسيح من الناموس إلى الخلاص, من الخطية إلى الفداء, من الموت بالناموس إلى الحياة في المسيح! فالناموس كان لازاماً قبل المسيح, ولكن بعد المسيح لم يصبح للناموس قدرة الوجود – وهو الحكم بالموت – في حضرة المسيح الحاكم بالحياة.

وهكذا أكمل المسيح عمل الناموس التأديبي بموته هو قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ. (غل24:3).

حيث يحمل المسيح عنا كل تأديب وحكم الناموس, ويمنحنا البراءة والبر. لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. (مت 17:5). وقول المسيح في إنجيل ق. متى: “إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ. (مت 20:5). هذه الزيادة في البر, هي ما هو فوق الناموس بالإيمان بالمسيح, الذي يمنحنا بر المسيح الشخصي الذي يسمو فوق كل أعمال الناموس وبره.

وفي المقابلة بين الناموس الثقيل من جهة الفرائض المحدودة وبين نير المسيح يقول المسيح: “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ. (مت 28:11-30).

وهكذا بينما الناموس على يدي الكتبة لا يعطي المثل الحي الذي يُحتذى, يُعطي المسيح نفسه مثلاً أعلى يُحتذى به, بل ويؤازر بروحه ويقوَّي. وهكذا أيضاً بينما الناموس يتطلب الطاعة العمياء لأوامر صعبة التنفيذ, يطلب المسيح أن يتعلَّموا الوداعة والتواضع منه بأستعداد أن يعطي نفسه معيناً ومصدراً للحياة. ولكن أشد ما يستعلنه المسيح من سر حياته الخاصة وتعليمه في صميم حياتنا اليومية هو حضوره الذاتي السرَّي والمخفى في أشخاص الناس المرفوضين والمذلين والمهانين:ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ. (مت 34:25-40).

وهكذا بهذا الفعل الإلهي السري العجيب سهَّل المسيح الانتماء إليه والتعامل معه بأن خفض حالة تواجده في صميم حياتنا اليومية, ليس إلى مستوى إمكانياتنا وحسب, بل وإلى أدنى مستوى يمكن أن نتعامل معه, وهم المحتاجين والأذلاء والجوعى والعريانين. وهكذا يقدم المسيح في إنجيل ق. متى قبول العهد الجديد والانتماء إليه إلى ما دون إمكانيات الإنسان العادي, وكأنه جعل الملكوت بين يدي الناس.

أما التوازي بين الملكوت والناموس فهو قائم على أساس ناموس الإيمان وليس ناموس الأعمال, كما قالها ق. بولس: فَأَيْنَ الافْتِخَارُ؟ قَدِ انْتَفَى. بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ الأَعْمَالِ؟ كَلاَّ. بَلْ بِنَامُوسِ الإِيمَانِ. (رو 27:3). لذلك كان المسيح ضد تحويل الإيمان بالله إلى مجرد أعمال لا علاقة لها بالروح, وكان واضحاً جداً في ذلك حينما عنَّف الكتبة والفريسيين هكذا: لكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ. (مت 13:23). هنا المانع لدخول الملكوت ليس هو الناموس, ولكن القوَّامين على الناموس الذين جعلوا منه سداً ضد الملكوت.

—————————————–

كتاب دراسة وتفسير إنجيل القديس متى _ الأب متى المسكين ص 110 – 113

Share this content:

إرسال التعليق

You May Have Missed