×

قيامة المسيح – للقديس يوحنا ذهبي الفم

قيامة المسيح – للقديس يوحنا ذهبي الفم

قيامة المسيح

للقديس يوحنا ذهبي الفم

(407-354م)

القيامة كعقيدة إيمانية:

قد عرض سابقاً القديس ذهبي الفم قيامة المسيح كقوَّة مُغيِّرة دخلت التلاميذ والرسـل، ومنهـم امتـدَّت إلى الكنيسة والعالم فغيَّرت وجـه التاريخ البشري؛ نستعرض الآن معه القيامة كعقيدة يؤمن بها المسيحيون. وليُلاحِظ القارئ أنَّ العلاقـة وثيقة بين قيامة المسيح وقيامتنا، لأن إحداهما مبنية على الأخرى. فقـد بدأت الكرازة بالقيامة بالنسبة للمؤمنين كنتيجة لقيامة الرب من بين الأموات.

مُقاومة الشيطان لهذه العقيدة:

+ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[ولأنها هي (أي القيامة) كل رجائنا، لذا وقف الشيطان مُقابلها بملء قوتـه… فهذه الادِّعاءات يُحرِّض عليها الشريـر، لا لينقض عقيدة القيامة فقط، بـل ليُظهـر أن كـل التدابير التي عُمِلَت لأجلنا هي خرافة. فالشيطان بعد أن يُقنع الإنسان بعدم قيامة الأجساد، يتدرَّج معه إلى عدم حدوث قيامـة المسيح، وبالتالي أنَّ الله لم يَظْهَـر في الجسد، ولا صَنَع كل مـا صَنَع لأجلنا. هذا هو دهـاء الشيطان كمـا سمَّاه بولـس (الرسول): «مكيدة الضلال» (أف 4: 14)](1).

[… فـلا نُنكر القيامة، لأن هـذا مـن عمل الشيطان الـذي لا يشتهي فقط إنكـار هـذه العقيدة، بـل ليمنعك عـن الأعمال الصالحة. فالذي لا يرجـو قيامة الأموات، لا يتوقَّع أن يُعطي حساباً عـن أعماله، وكيف عاش فيها هـذا الزمـان الطويل؟ وفي أيِّ مكانٍ هـو؟ ولماذا حدث هذا؟…](2).

علاقتنا بالقيامة:

كما رأينا، فـإنَّ ما يُميِّز القديس يوحنا ذهبي الفم، هـو الاتِّحاد الوثيق في عظاته وكتاباته بين الحياة والإيمان، عملاً بقول يعقوب الرسول: «أَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي… بِالأَعْمَالِ أُكْمِلَ الإِيمَانُ» (يع 2: 22،18). فـالإيمان بذرة الحياة وليس مجرَّد نظرية، والعقائـد لابـد أن تُعاش، والحياة الطاهرة هي المحكُّ الحقيقي للعقيدة السليمة.

العلاقة الحتمية بين قيامتنا وقيامة المسيح:

+ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[الرسول بولس يقول: «إن لم يكن المسيح قد قـام، فـلا تكون قيامة للناس»، هذه نتيجة حتمية؛ وبالعكس، إن لم تكُـن قيامة للجميع، فلا يكون المسيح قـد قام. هل هناك صعوبة في هـذا؟ تأمَّلوا أولاً، كيف أنَّ الرسول سبق فبَذَر أصـول الإنجيل مـن البدء بقوله: «مات لأجـل خطايانـا» ثم «بِكْر الراقدين». لمَـن يكون بِكْراً إلاَّ للقائمين من بين الأموات، وإلاَّ فكيف يكون بِكْراً إنْ لم تكن قيامة؟ أيضاً، إذا لم يقوموا، فلأجل مَن قام المسيح؟ ولمَن جاء؟ بل، ولماذا أَخَذَ جسـداً، إن لم يكن لأجل إقامة الأجساد؟! هـو شخصياً ليس في احتياجٍ ذاتي للقيامـة، بـل تمَّمها لأجلنا.

فـالارتباط بـين القيامتين وثيـقٌ. إن كُنَّا لا نقوم، فهـذا يعني إبطـال التجسُّـد، وإلغاء موتـه لأجلنا، وإبادتـه لسلطان المـوت. لأن المسيح لمَّا كان في الجسد كـان أيضاً سلطان الموت ما زال سائداً](3).

[«… إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ» (2تـي 2: 11)، وكما نتألَّم الآن بموته ونُفضِّل أن نعيش في الموت لأجله، فهـو أيضاً – ونحن مائتون – سيلدنا ثانيةً للحياة الأبدية معه. وبسبب أننا في هـذه الحياة نجوز منها إلى الموت، فهـو أيضاً سيقودنا بيده من الموت إلى الحياة](4).

† خِلْقة العالم وآدم الأول تحمل ضمناً القيامة:

+ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[لا يشكُّ أحـدٌ في أَمْـر القيامة، وإلاَّ فلينظر كيف أنَّ الله صَنَع أمـوراً كثيرة مـن العدم وجعلها دليلاً على أشياء أخـرى. تأمَّل كيف أَخَذَ من أديم الأرض وصَنَع آدم؟ كيف صيَّر الأديم إنسانـاً؟ الأرض نفسها، أَلَم تُخلَق من لا شيء ومنها صَنَع الله كـل شيء! أنواعاً لا حَصْر لها من خليقة غير عاقلة، من بذور ونباتات دون أي جهد أو عناء سابق، قبل أن ينزل مطر، دون فلاحة وبـلا محراث، دون أي شيء يُسهـم في إنبـات البذور… قـد نتساءل: كيف أنَّ الجسد الذي اختلط بالتراب، بل صار تراباً وانتقل من موضعٍ إلى موضع، يقوم ثانيةً؟ بالنسبة لك يبدو الأمـر مُستحيلاً، لكن ليس هكـذا عند الذي عينه لا تغفل ولا تنام وكل شيء مكشوف أمامه. أنت مُقابـل هـذه الفوضى، لا تقـدر أن تُميِّز منها شيئاً، ولكن الله يعرفها جميعاً. مثلاً: أنت لا تعرف ما يجول من أفكارٍ في قلب قريبك، ولكن الله غير ذلك. ومع عجزك هـذا تُصدِّق أنَّ الله يعرف خفايا قلبك مع أنَّ هـذه الأمور خفية عن عينيك. إذن، لا تجعل عدم فهمك للكيفية التي يُقيم بها الله الأمـوات، سبباً في عـدم إيمانك بالقيامة](5).

أمثلة من العهد القديم:

+ لا يكتفي القديـس ذهبي الفم بـالبراهين العقلية، فالواعظ الأمين تتجلَّى قدرته، ليس في مواهبه الشخصية بالإقناع، بـل بسلطان كلمة الله المُعلَنة في الكتاب المقدَّس التي هي أقوى من كلِّ سلطان العقل والمنطق والحجَّة والبلاغة. فيقـول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[أيـن أولئك الذيـن يسخرون بـالقيامة ولا يؤمنون بها قـائلين: كيف تجتمع العظام مع بعضها؟ قولوا لي كيف صعد إيليا إلى السماء في مركبةٍ نارية؟ النار مـن طبيعتها أن تهلك وتُفني لا أن تحمـل بعيداً. «عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ، وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ. لأَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِـنْ أَجْلِكُمْ» (2كـو 4: 15،14). هكـذا الرسول (بولس) يملأ المؤمنين بكلماتٍ سـامية حتـى لا يكونوا مدينين لأحدٍ. لأن كـلَّ الأشياء هي مـن الله الذي يشاء أن يمنحها للجميع لتبدو النعمة مُتفاضلة جداً. فلأجلكم، يقول الرسول، كـانت القيامة وكـل شيء. والله لم يصنعها لأجل واحدٍ (فقط) بل لكلِّ واحدٍ](6).

شركتنا في موت المسيح:

هي ضمان الحياة معه في القيامة:

+ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[«كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ» (رو 6: 4). هنا يُلمِّح الرسول عـن القيامـة في كلامـه عـن السلوك الفاضل. أتؤمن أنَّ المسيح مات وقـام؟ آمِـن بنفس الشيء بـالنسبة لك، لأن الصلـيب والدَّفـن يخصُّك… إنْ كنتَ قـد اشتركتَ في المـوت والدَّفـن، فبالأحرى في القيامـة والحياة أيضاً. الأصعب، أي الخطية، قـد انتهت، فـلا يليق أن نشكَّ فيما بعد في الأيسر أي إبـادة الموت… إنَّ القيامة العتيدة تتطلَّب منَّا شيئاً آخر، السلوك الجديد بتغيير العادات، أن يتحوَّل الزاني إلى العفَّة، والبخيل إلى الرحمـة، والقاسي إلى الوداعة. في هـذا التحوُّل تحدث قيامـة تُمهِّد للأخرى العتيدة. ولأن الخطية هي مـوتٌ، فالبرُّ هو حياة. الحياة العتيقة قد آلت إلى عدم، وهذه الجديدة الملائكية حيَّة. وحينما تسمع عـن الحياة الجديدة، فابحث عـن التغيير الكبير، لأن الدموع تملأ عينيَّ وأتنهَّد بحُرقة قلب، وأنا أُفكِّر في بولس (الرسول) وما يطلبه منَّا، وإلى أيِّ توانٍ أسلمنا ذواتنا حتى أنـه بعد المعمودية نعود إلى العتيق الذي كان لنا، ونرجع إلى مصر ونتذكَّر الثوم بعد المَنِّ السمائي](7).

القيامة هي عزاء للحزانى:

+ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[أنتم تعلمون أنَّ هناك قيامـة ثم تحزنون مثل غير المؤمنين! الرسول (بولس) لا يقول عن الذيـن انتقلـوا: «مـن جهة الأموات»، بل اسمع مـاذا يقـول: «مِـنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ… لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ» (1تس 4: 13). أنْ تحـزن لأجـل المُنتقلين، فهذا يعني أنك تسلك كالذين بـلا رجاء. هُم على حـقٍّ، لأن النفس التي لا تعـرف شيئاً عـن القيامة، بل تظُنُّ أن هـذا الموت هـو فناء؛ مـن الطبيعي أن تحـزن وتنوح وتندب على موتاهـا كأنهم ضائعون. ولكـن أنت، الذي تنتظـر القيامة، فعلى أيِّ أساسٍ تنوح؟ هـذا مـن نصيب الذين لا رجاء لهم](8).

موتنا اليومي يُعلِن القيامة:

+ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[… مـع أنَّ القيامة أمـرٌ يتعلَّق بالمستقبل، ولكن الرسول (بولس) يُصرِّح أنها تحدث كـل يوم. كيف هذا؟ حينما يُقيم الله إنساناً بائساً بلغ أبواب الهاوية، فهـو بهذا لا يُعلِن شيئاً سوى القيامة، إذ ينتزع مـن مخالب المـوت الذيـن سقطوا في يده. هـذا هـو حال البائسين والذين برأوا مـن أمـراضٍ خطيرة، أو نَجَوْا مـن تجارب مُهلكة. لذلك صار مألوفاً عندنـا أن نقـول عـن مثل هـؤلاء: ”لقـد رأينا قيامة الموتى“](9).

رجاء القيامة يحلُّ مشكلة الألم:

الذي هو مُعضلة الإنسان الكبرى:

ليس هنـا المجـال لأن نتعـرَّض لمشكلة الألم تفصيلاً، لكننا نكتفي ببعض الآيـات التي وردت في أحـد المزامير (مز 73: 3-16). صحيحٌ أن المُرتِّل وَجَدَ حـلاًّ لها في باقي آيات المزمور، ولكن الحلَّ غامضٌ، في كلماتٍ مُبهمة. ولكن انظر، أيها القارئ، إلى تعليم القيامـة وكيف أنـه أجاب عـن المشكلة بوضوحٍ وصراحة وبساطة.

+ فيقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[يقول بولس الرسول إننا نعاني شروراً كثيرة في الحياة الحاضرة، فـإن لم تكُن هناك حياةٌ أخرى نترجَّاهـا، فمـا أتعسنا!!… هذا دليلٌ على أنَّ أعمالنا ليست محصـورة في الحياة الحاضرة، وهـذا واضحٌ مـن المِحَـن التي نجتازهـا. لأن الله لا يسمح للذيـن احتملوا شروراً عظيمة بهـذا المقدار، والذين قضوا حياتهـم في الأتعاب والأخطار، أن يصيروا بـدون مجازاةٍ في العطايـا العُظمى. ولأنه لا يسمح بهـذا، فلابد أنـه أَعدَّ حياةً أخرى أفضل وأجمل. هناك يُكلِّل الذيـن جاهدوا في سبيل القداسة، ويمدحهم على مَرأى من العالم كله. لـذلك حينما تـرى إنسانـاً بارّاً تحت الضُّغطة والألم، سواء في فقـر أو مرض أو ضربة حتى نهايـة حياتـه؛ قُلْ لنفسك: لولا وجود قيامة ودينونة، ما كـان الله يسمح لمثل هذا الإنسان، الذي احتمل شروراً عظيمة بهذا المقدار لأجل اسمه، أن يُفارِق الحياة دون أن يتمتَّع بأيِّ شيءٍ صالح. ولولا هـذا ما سمح للأشرار أن يتلذَّذوا في الزمن الحاضر، بينما الأبرار يُعانون أوجاعاً بهذا المقدار](10).

وبهـذا العَـرض لتعليم القيامة عند القديس يوحنا ذهبي الفم، رأينا كيف أنَّ الإيمان بها يمكن أن يُغطِّي كـل احتياجات الإنسـان في شبابـه ورجولته وكهولته؛ وأنَّ قـوَّتها حـاضرةٌ فينا بالمعموديـة، تمنحنا شجاعـة الشهادة للربِّ في الخدمة والسلوك اليومي في هـذه الحياة، وكذلك تهبنا قـوَّةً فـوق الآلام والضيقات، وعـزاءً في الأحزان، وفرحاً بالخيرات العتيدة.

—————————

(1) ”على رسالة كورنثوس الأولى“، عظة 38: 1. 
(2) ”على رسالة كولوسي“، عظة 5. 
(3) ”على رسـالة كـورنثـوس الأولى“، عظـة 39: 3. 
(4) ”على رسالة كورنثوس الثانية“، 9: 1. 
(5) ”على رسالة كورنثوس الأولى“، عظة 17: 3. 
(6) ”على رسالة كورنثوس الثانية“، 9: 2. 
(7) ”على رسالة رومية“: 10. 
(8) ”على رسالة تسالونيكي الأولى“: 6. 
(9) ”على رسالة كورنثوس الثانية“، 2: 4. 
(10) ”على التماثيل“، 5: 6.

نقاط مضيئة من القديس يوحنا ذهبي الفم عن حقيقة وكيفية “قيامة المسيح” في حياتنا!!

Share this content:

إرسال التعليق

You May Have Missed